ترامب يوقع أمرا تنفيذيا يجيز فرض عقوبات على دول متواطئة في احتجاز أمريكيين "بشكل غير قانوني"
في لحظة بدت كأنها اختلال نادر في معادلة الثبات السياسي داخل أوكرانيا، خرجت الأزمة الأخيرة من نطاق الصراعات التقليدية مع روسيا إلى مساحات أكثر تعقيدًا، تتعلق بطبيعة الحكم وحدود السلطة داخل الدولة.
فمع توقيع الرئيس فولوديمير زيلينسكي قانونًا مثيرًا للجدل يعيد صياغة صلاحيات الهيئات المعنية بمكافحة الفساد، بدأت تتكشف ملامح أول انقسام داخلي واسع منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ تجسدت في احتجاجات غير مسبوقة جمعت مدنيين وعسكريين، وأثارت أسئلة ملحة حول الاتجاه الذي تسير فيه البلاد.
هذه التطورات، التي لم تعد محصورة في الجدل القانوني، ألقت بظلالها على مشهد سياسي مأزوم، تُختبر فيه قدرة القيادة الأوكرانية على إدارة التوازن بين مقتضيات الأمن الداخلي ومستلزمات الحكم الرشيد، في لحظة تتداخل فيها معركة السيادة مع معركة الشرعية.
القانون الجديد، الذي وقعه زيلينسكي بعد مروره السريع في البرلمان، يمنح النائب العام سلطات إشراف مباشرة على كل من المكتب الوطني لمكافحة الفساد ومكتب الادعاء الخاص المعني بمكافحة الفساد.
ويأتي ذلك بعد سنوات من اعتبار هاتين المؤسستين من ركائز النظام القضائي المستقل، واللتين أُنشئتا بدعم غربي مباشر بعد عام 2014 بهدف تطويق نفوذ الرئاسة وضمان المحاسبة داخل الدولة.
ووفق مراقبين، فإن غياب الإعلان الرسمي عن التوقيع، وظهوره فقط عبر تحديث في الموقع الإلكتروني للبرلمان، زاد من الشكوك بشأن دوافع القرار، خاصة في ظل تقارير تحدثت عن تحقيقات جارية ضد مقربين من الدائرة الرئاسية.
وبعد ساعات من الكشف عن توقيع القانون، بدأت دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي للتظاهر في محيط مكتب الرئاسة، وسرعان ما تحولت إلى تحركات فعلية شملت العاصمة كييف، ومدنًا أخرى مثل لفيف وأوديسا ودنيبرو.
واللافت في هذه التظاهرات لم يكن فقط عدد المشاركين، بل تنوعهم، إذ شارك مدنيون وناشطون وقدامى محاربين، فضلًا عن عائلات جنود لا يزالون في مواقع القتال، ورفعوا شعارات تُدين ما وصفه المتظاهرون بـ"تقويض استقلال الدولة".
وتزامن الحراك الشعبي مع حالة من التململ داخل صفوف القوات الأوكرانية، حيث أبلغت زوجات جنود أن أزواجهن اتصلوا معبّرين عن غضبهم من التوجه الجديد للحكومة، مؤكدين أن تمرير القانون يُهدد ما قاتلوا من أجله.
وسجلت مواقف علنية من قدامى المحاربين، أبرزها تصريحات مقاتلين سابقين حذروا من "عودة نمط الحكم الفردي"، وتفريغ مؤسسات الدولة من صلاحياتها المستقلة.
ورغم أن الحكومة وصفت الإجراءات بأنها "إعادة تنظيم لحماية السيادة"، إلا أن رئيس المكتب الوطني لمكافحة الفساد، سيمين كريفونوس، عبر عن رفضه الصريح للقانون، مؤكدًا أن القرار يعرض مسار أوكرانيا نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي للخطر.
وفي مفاجأة من العيار الثقيل، عبر الاتحاد الأوروبي صراحة عن قلقه من مسار الأحداث، خصوصًا أن الهيئات المتضررة من القانون تُعد جزءًا من التزامات كييف تجاه الإصلاح المؤسسي، أحد شروط التقدم نحو عضوية الاتحاد.
وحذرت المفوضية الأوروبية من أن القانون يمثل انتكاسة واضحة في مسار الإصلاحات، ما يضع الحكومة الأوكرانية أمام اختبار صعب بين حساباتها الداخلية والضغط الخارجي.
ومع انتقال مركز الاهتمام الشعبي من الجبهة العسكرية إلى الساحة السياسية الداخلية لأول مرة منذ سنوات، يبدو أن زيلينسكي منشغل في معركته بالحفاظ على نموذج الحكم الديمقراطي وسط أجواء الطوارئ، ومنع تحول السلطة التنفيذية إلى مركز نفوذ مطلق تحت شعار "الوحدة الوطنية".
وفي هذا السياق، يرى الخبير في الشؤون الروسية، د. سمير أيوب، أن تصاعد الغضب الشعبي في أوكرانيا أمر طبيعي، نتيجة لسياسات زيلينسكي التي "ورطت" البلاد في حرب لا طائل منها، وفتحت الأبواب لفساد مستشرٍ في مفاصل الدولة.
ويؤكد أيوب، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن أوكرانيا تُعد من بين أكثر الدول فسادًا عالميًا، استنادًا لتقارير دولية، وأن دائرة السلطة تضم شخصيات راكمت ثروات طائلة من مصادر غير مشروعة، عبر علاقات مع لوبيات داخلية وخارجية.
ويشير إلى أن مشروع قانون تقليص صلاحيات الهيئات الرقابية في أوكرانيا يمثل تراجعًا خطيرًا عن مسار الشفافية، ويكشف عن نوايا سياسية مبيتة لضرب مبدأ الفصل بين السلطات في وقت تعاني فيه البلاد من حرب مرهقة وفساد مستشر.
ويتابع أيوب: "إن هذا القانون ليس سوى حلقة جديدة من سلسلة خطوات بدأها نظام زيلينسكي لتقويض استقلالية القضاء منذ بداية الحرب، بدءًا من تعيينات مريبة في مواقع حساسة، وصولًا إلى التضييق على وسائل الإعلام المستقلة، وهو ما يكرس سلطة تنفيذية منفلتة من أي رقابة حقيقية".
ويوضح أن توقيت تمرير القانون لا يمكن فصله عن تصاعد أصوات التذمر الشعبي في الداخل، خاصة بعد تقارير موثقة كشفت عن تورط مسؤولين عسكريين ومدنيين في وقائع فساد بملايين الدولارات، دون محاسبة تذكر.
ويؤكد أيوب أن النظام الأوكراني، بدلًا من أن يواجه الأزمة بشفافية ويُخضع المتورطين للمساءلة، اختار تهميش أدوات الرقابة، ما يضعف ثقة المواطن ويزيد الاحتقان داخل الشارع.
وينبه أيوب على أن هذه السياسات قد تؤدي إلى شرخ خطير في الجبهة الداخلية، خاصة إذا تزامن استمرار القمع مع تفاقم الأعباء المعيشية، ما يجعل الانفجار الاجتماعي مسألة وقت فقط.
ويشبه الوضع الحالي بما شهدته روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، حين تحكمت نخبة مالية في مؤسسات الدولة، وهو ما يعكسه اليوم نفوذ رجال الأعمال الأوكرانيين المقربين من السلطة، الذين أصبحوا قادرين على التأثير في القرار السياسي، متجاوزين زيلينسكي نفسه.
ويشير أيوب إلى أن الأوضاع الاقتصادية المتردية، من إفلاس المصانع وتهريب الشباب من التجنيد، ساهمت في تأجيج الغضب الشعبي، الذي لم يعد مجرد تململ صامت، بل بدأ يأخذ شكل احتجاجات ومطالب واضحة بتغيير النهج، في ظل ما يصفه بعضهم بـ"حكم الأوليغارشية تحت غطاء الديمقراطية".
من جانبه، يقول الدبلوماسي والأكاديمي المتخصص في شؤون شرق أوروبا، د. ياسين رواشدي، إن استمرار الحرب في أوكرانيا إلى هذا الحد الزمني، والخسائر الكبيرة التي تتكبدها الدولة الأوكرانية، أوجد حالة من النقمة الشعبية لدى الناس ضد السلطات، التي كانت قد وعدت بأنها ستستطيع صد هذا العدوان في فترة قياسية.
ويؤكد رواشدي، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن تراجع المساعدات الأوروبية نسبيًا مع مرور الوقت، ساهم في خلق رد فعل سلبي لدى المواطنين الأوكرانيين.
ويشير إلى وجود حالات، وإن كانت فردية، من الفساد وسوء استخدام الأموال والمساعدات التي تصل إلى أوكرانيا.
ويوضح رواشدي أن مساحة النقد وحرية الرأي في أوكرانيا أوسع بكثير مما هي عليه في روسيا، بل إن البرلمان الأوكراني ما زال يجتمع من حين إلى آخر لمناقشة تطورات الحرب، وسط وجود معارضة سياسية داخل السلطة والنظام، ما أدى إلى تصاعد وتيرة المعارضة مؤخرًا، خصوصًا في ظل الأداء العسكري المتواضع لأوكرانيا مقارنة بالتفوق الروسي.
ويؤكد أن حجم المعاناة لدى المواطن الأوكراني أكبر بكثير من نظيره الروسي، فثلاثة أرباع الأراضي الأوكرانية تتعرض لهجمات متكررة، في حين أن القصف الأوكراني لمواقع داخل روسيا يظل محدودًا جغرافيًا، لا سيما في الجنوب الغربي.
ويقول رواشدي إن الكشف عن قضايا فساد في استخدام المساعدات رفع من منسوب الغضب الشعبي، حيث بدأت ترتفع الأصوات المطالبة بإقالة الرئيس، خاصة أن ولايته الدستورية انتهت، لكن البرلمان قرر تمديدها نظرًا لظروف الحرب التي تجعل من الصعب، إن لم يكن مستحيلًا، إجراء انتخابات.
ويتابع: "هذه الانتقادات والاحتجاجات متوقعة في ظل الوضع الراهن، لكنها لا ترقى إلى حد تشكيل حراك شامل أو واسع، نظرًا لتعقيدات الوضع الدستوري وظروف الحرب".
ومع ذلك، فإن هذه الاحتجاجات تشكّل رسالة قوية إلى الحكومة الأوكرانية والرئيس زيلينسكي بضرورة تعديل مواقفه والتعاطي بقدر أكبر من الواقعية وربما بمرونة في ملف المفاوضات مع روسيا بشأن الحرب والسلام.