يُشير التهديد الصريح الذي وجّهه قائد الدبلوماسية الأمريكية، ماركو روبيو، إلى رواندا بانتهاك اتفاق السلام مع الكونغو الديمقراطية، إلى نفاد صبر واشنطن حيال كيغالي، التي تؤكد الدراسات الإستراتيجية أنها تنظر إلى استقرار كينشاسا بوصفه خطرًا إستراتيجيًّا عليها وعلى اقتصادها الهش.
إذ يصعب العثور على قضية في العالم جمعت بين دفّتيها كمًّا هائلًا من وثائق السلام، ومعاهدات التسويات، وإعلانات المبادئ، ومقترحات الوساطات الإقليمية والدولية، كما هي الحال في القضية الكونغولية.
ورغم كثرة مُدوّنات المصالحة والمسامحة، التي كثيرًا ما كانت عناوين لاحتفالات إقليمية ودولية بالتوصل إلى السلام في المنطقة، فإن صوت جلجلة الرصاص وهدير الدبابات لا يزال يحكم شرق الكونغو الديمقراطية، ويتحكم في مصائر سكانها.
صعّدت واشنطن من خطابها السياسي والدبلوماسي حيال رواندا بشكل لافت خلال الفترة الأخيرة، إذ اتهم وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، كيغالي بانتهاك اتفاق السلام مع كينشاسا، بوساطة الرئيس دونالد ترامب.
وقال روبيو: "تشكل تصرفات رواندا في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية انتهاكًا واضحًا لاتفاقيات واشنطن، وستتخذ الولايات المتحدة الأمريكية إجراءات لضمان الوفاء بالوعود التي قُطعت للرئيس ترامب".
من جهته، قال السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة، مايك وولتز، خلال اجتماع لمجلس الأمن: "بدل إحراز تقدم نحو السلام، تجرّ رواندا المنطقة إلى مزيد من عدم الاستقرار وإلى الحرب".
وتابع وولتز: «في الأشهر الأخيرة، نشرت رواندا عددًا كبيرًا من صواريخ أرض–جو، وأسلحة ثقيلة أخرى ومتطورة، في شمال وجنوب كيفو، لمساعدة حركة "إم23"، ولدينا معلومات موثوقة عن زيادة استخدام المسيّرات الانتحارية والمدفعية من جانب "إم23" ورواندا، بما في ذلك تنفيذ ضربات داخل بوروندي».
وبعدما سيطرت حركة "إم23" على مدينتي غوما في كانون الثاني/يناير، وبوكافو في شباط/فبراير، شنّت الحركة، بدعم من رواندا، هجومًا جديدًا في مطلع كانون الأول/ديسمبر، في إقليم جنوب كيفو شرقي البلاد، على طول الحدود مع بوروندي.
تتقاطَع التصريحات الأمريكية مع تأكيدات الأمم المتحدة بأن عام 2025 كان دمويًّا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إذ أسفرت المواجهات المحتدمة عن مقتل أكثر من سبعة آلاف شخص، من بينهم 20 فردًا من قوات حفظ السلام الإفريقية.
ومع تجدّد القتال مطلع كانون الأول/ديسمبر، تؤكد المصادر الميدانية مصرع ما لا يقل عن 300 مدني، وإصابة المئات بجروح، ونزوح أكثر من مليون كونغولي إلى وجهات غير محددة، ولا تحظى بإشراف أممي واضح.
وفي إحاطة إعلامية على هامش دورة مجلس حقوق الإنسان في جنيف، أكدت رئيسة الوزراء الكونغولية، جوديت سومينوا تولوكا، صحة الأرقام الواردة، مضيفة أن معظم القتلى من المدنيين.
وتشير مصادر حقوقية دولية ميدانية إلى أن شرق الكونغو الديمقراطية تحوّل إلى مجال للجريمة المنظمة، وللإعدامات الميدانية من دون محاكمات، وعمليات النهب المنظم للممتلكات، وحرق المنازل والقرى بالكامل، والتدمير المتعمد للبنية التحتية المدنية، فضلًا عن التعذيب والاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري.
وتعتبر هذه المصادر أن المشهد أبعد ما يكون عن التطلعات الدولية في تأمين السلام في المنطقة، ويتناقض بشكل تام مع الوعود والتعهدات التي تقطعها الأطراف المتقاتلة عند توقيع كل اتفاق سلام جديد، سرعان ما يُلقى في طيّ النسيان.
في مثل هذه السياقات، حيث ينتصر السلاح على الإصلاح، وتُهزم اتفاقيات السلام أمام النزاعات المسلحة، يصبح من الضروري النظر في مقتضيات الفعل الإستراتيجي ومقوماته وتأثيره في الميدان الكونغولي.
وتتفق القراءات الجيوسياسية على أن منطقة شرق الكونغو يصعب أن تعرف الهدوء والاستقرار، لثلاثة أسباب رئيسية: سبب عرقي، وثانٍ إقليمي إفريقي، وثالث دولي مرتبط بالمنافسة الصينية–الأمريكية على الممرات الإستراتيجية.
السبب الأول هو امتداد للحرب الأهلية التي شهدتها رواندا، والتي انتهت بمذبحة جماعية قُدّر ضحاياها بنحو مليون قتيل من الهوتو والتوتسي.
وتكشف الدراسات المعنية بالعدالة الانتقالية أن مئات الآلاف من ميليشيات الهوتو فرّوا إلى شرق الكونغو الديمقراطية، الذي تحوّل إلى ملاذ آمن لسلاحهم وأيديولوجياتهم العنصرية؛ ما سمح لهم بتشكيل ميليشيات متطرفة، أبرزها "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا".
وقد اصطدمت هذه الجماعات بمجموعات كبيرة من التوتسي الكونغوليين في شرق البلاد؛ ما أدى إلى استنساخ "نسخة ثانية مخففة" من الحرب الأهلية الرواندية. ورغم محاولات كينشاسا تخفيف حدّة التوترات العرقية، فإن روح الثأر لا تزال تحصد أرواح العشرات.
أما السبب الثاني، فيتعلق بالأدوار المكشوفة التي تلعبها رواندا في شرق الكونغو، والتي غالبًا ما تبررها كيغالي بوجود معارضة مسلحة تستهدف نظام الحكم فيها.
غير أن الدور الرواندي أعمق بكثير، إذ تستثمر كيغالي بشكل واسع في المعادن النادرة والثمينة التي تزخر بها المنطقة، مثل: الكولتان والذهب والقصدير والماس والكوبالت والنحاس، وهي معادن تشكل العمود الفقري لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية والحواسيب والهواتف الذكية.
وتستعين رواندا بميليشيات "إم23" في استخراج هذه المعادن وتهريبها إلى الداخل الرواندي، قبل إدخالها في منظومة التسويق والتصدير.
وبالتالي، فإن أي سيطرة كونغولية رسمية على هذا الخزان الإستراتيجي ستُفقد رواندا موردًا تعدينيًّا بالغ الأهمية، وتخضعها لأسعار تفرضها كينشاسا، وهو ما تسعى كيغالي إلى تجنّبه بشتى السبل.
أما السبب الثالث، فيرتبط بالصراع الدولي بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، والصين من جهة أخرى، إذ تنظر هذه الأطراف إلى الكونغو الديمقراطية بوصفها "بيضة القبان" في معادلة الصراع على المعادن النادرة.
فواشنطن وبروكسل تعوّلان على الكونغو لكسر الاحتكار الصيني، في وقت أجبرت فيه بكين الغرب على دفع أثمان باهظة للحصول على هذه الموارد، من دون المساس بسلاسل التوريد الصينية.
وفي هذا السياق، تعمل واشنطن على استكمال مشروع "ممر لوبيتو"، الذي يُعد الممر الذهبي لكسر الاحتكار الصيني، عبر نقل المعادن من المناجم إلى ميناء لوبيتو، ثم إلى المحيط الأطلسي فأوروبا.
في المقابل، تنظر بكين إلى كينشاسا بريبة، لثلاثة أسباب: أولها احتكارها شبه الكامل للمعادن النادرة، وثانيها أن ممر لوبيتو يضرب الممرات الصينية التقليدية، مثل ميناء دار السلام وخط تازارا في تنزانيا، وثالثها أن تزويد واشنطن بهذه المعادن يشكل خطرًا إستراتيجيًّا على الصين، خصوصًا مع تهديدات ترامب برفع الرسوم الجمركية.
وتجدر الإشارة إلى أن إحجام ترامب عن تنفيذ هذه الخطوة حتى الآن يعود إلى الهيمنة الصينية على المواد الأولية للصناعات التكنولوجية، إذ إن أي تقييد لهذه الواردات سيكبّد شركات التكنولوجيا الأمريكية خسائر فادحة.
كل ما سبق يؤكد صعوبة التوصل إلى سلام دائم في الكونغو الديمقراطية عبر الوثائق وإعلانات النوايا وحدها، بل يتطلب الأمر تصورًا إستراتيجيًّا يأخذ في الاعتبار التداخل المحلي والإقليمي والدولي حول المعادن النادرة.
ويرى خبراء الشأن الكونغولي أن الحل يبدأ دوليًّا بين الصين والولايات المتحدة، ثم إقليميًّا بين رواندا والكونغو، قبل أن يكون محليًّا بين حركة إم23 وكينشاسا، وأي تصور لا يحترم هذه التراتبية لن يكون سوى وثيقة جديدة يُحتفى بها إعلاميًّا، ثم تُلقى جانبًا.