بين تصريح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، يوم السبت الماضي 11 أكتوبر/ تشرين الأول، الذي أعلن فيه استعداد بلاده للنظر في "اقتراحٍ أميركيٍّ منصفٍ ومتوازن" حول استئناف المفاوضات النووية، شريطة أن لا تُمس حقوق إيران في تخصيب اليورانيوم وأن تُقابَل أي خطوات تفاوضية برفعٍ جزئي للعقوبات، وبين تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية إسماعيل بقائي، اليوم الاثنين 13 أكتوبر/ تشرين الأول، الذي نفى فيه سعي إيران إلى امتلاك أسلحةٍ نووية وهاجم الدول الأوروبية الثلاث (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا) واصفاً مواقفها بأنها "مكرّرة وغير صادقة"، بدا التناقض الإيراني واضحًا بين لهجةٍ دبلوماسيةٍ مرنة تحاول فتح نافذة تفاوض جديدة، وخطاب هجوميّ يعيد إنتاج الصدام مع الغرب.
ورغم أن الخطاب المزدوج الذي تلجأ إليه طهران ليس جديدًا، لكنه في اللحظة الراهنة يحمل دلالاتٍ أكثر هشاشة، فالتصريحات المتناقضة تأتي بعد إعادة تفعيل آلية "سناب باك" في مجلس الأمن، التي أعادت فرض العقوبات الأممية على إيران، وبعد فشلٍ متكرر في إعادة تشغيل منشأة "نطنز" التي تضرّرت في الضربات الأميركية في حزيران الماضي. هذه الوقائع تجعل الانفتاح الدبلوماسي المعلن أقرب إلى محاولة لشراء الوقت، لا إلى مبادرة حقيقية لإعادة التفاوض. إذ تدرك القيادة الإيرانية أن التقدم النووي الميداني بات مكلفاً في ظل العزلة المالية، وأن أي مغامرة عسكرية جديدة ستُعيدها إلى نقطة أكثر ضعفاً مما كانت عليه قبل عام.
في المقابل، يُظهر الهجوم العنيف من المتحدث باسم الخارجية على أوروبا رغبةً في إعادة إنتاج مشهد "العدو الخارجي" كأداةٍ لتعبئة الداخل الإيراني المأزوم اقتصادياً.
فالتصعيد الكلامي ضد العواصم الأوروبية، واتهامها بعدم الموثوقية، لا يمكن قراءته إلا بوصفه محاولة لتشتيت الانتباه عن فشل الحكومة في تخفيف آثار العقوبات، أو في إقناع حلفائها التقليديين في بكين وموسكو بتقديم دعمٍ اقتصادي مباشر. هذه الازدواجية في المواقف الإيرانية انعكست مباشرة على طريقة تعامل العواصم الغربية مع الملف.
وفق مصدرٍ دبلوماسي أوروبي تحدّث لـ"إرم نيوز"، فإنّ العواصم الأوروبية تنظر بعين الريبة إلى التصريحات المتناقضة الصادرة عن طهران، وتعتبرها دليلاً على غياب إرادة سياسية واضحة داخل النظام الإيراني للعودة الجادة إلى طاولة المفاوضات.
ويضيف المصدر أنّ ما قاله الوزير عراقجي حول الانفتاح على اقتراح أمريكي متوازن لا يمكن فصله عن الحاجة الإيرانية لتخفيف الضغوط الاقتصادية، لكنه لا يعكس تحولاً في جوهر الموقف الإيراني.
ويشير المصدر إلى أنّ الأوروبيين لا يرون في خطاب الانفتاح سوى محاولة لشراء الوقت وإعادة تدوير الخطاب الدبلوماسي السابق، من دون التزام فعلي بوقف مستويات التخصيب أو السماح برقابة كاملة للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
من وجهة النظر الأوروبية، فإنّ الملف النووي لم يعد يُدار وفق ثقةٍ متبادلة كما كان الحال في اتفاق 2015، إنما بات يُقارب على أساس موازين الردع وليس التفاهم.
ويؤكد الدبلوماسي أنّ الدول الأوروبية الثلاث (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) تتجه إلى توحيد موقفها مع واشنطن في المرحلة المقبلة، مع اعتماد نهج "الردع الدبلوماسي" الذي يربط أيّ تخفيف للعقوبات بتغيّر ملموس في سلوك إيران النووي والإقليمي معاً.
ويضيف أن "الولايات المتحدة والأوروبيين يتشاركون الآن قناعة بأنّ سياسة الحوافز الاقتصادية لم تعد كافية، وأنّ أي اتفاق جديد يجب أن يتضمن آلية مراقبة صارمة وجدولاً زمنياً واضحاً لخفض نسب التخصيب، وإلا ستُستأنف الضغوط المتعددة المستويات".
المصدر الأوروبي يرى أنّ أي حملة إعلامية إيرانية ضد أوروبا، خصوصاً التصريحات الأخيرة للمتحدث باسم وزارة الخارجية "تكشف حجم التوتر داخل المؤسسة الحاكمة في طهران أكثر مما تُظهر تماسكاً". فوفق تعبيره، "إيران تتصرف كمن يفاوض في العلن ويصعّد في الخفاء".
وفي واشنطن، يتقاطع الموقف الأمريكي مع الرؤية الأوروبية في عدم منح إيران أيّ مساحة للمناورة اللفظية. فالإدارة الأميركية – وفق المصدر ذاته – ترى أنّ لغة الانفتاح التي يستخدمها عراقجي لا تتجاوز المستوى الإعلامي، وأنّ كل المؤشرات التقنية تشير إلى مواصلة إيران التخصيب عند مستوياتٍ تقترب من الحدّ العسكري.
لذلك، يجري حالياً تنسيقٌ مكثّف بين الأوروبيين والأمريكيين لإعداد مقاربة مزدوجة تُبقي الباب مفتوحاً أمام مسارٍ دبلوماسي محدود، لكنها في الوقت نفسه تزيد من الضغط المالي والسياسي لضمان ألّا يتحوّل الخطاب الإيراني المزدوج إلى وسيلةٍ لكسب الوقت أو لانتزاع تنازلات من دون التزامات حقيقية.
وأكد الدبلوماسي الأوروبي أن تصعيد طهران ضد باريس وبرلين ولندن يعقّد المسار الدبلوماسي أكثر مما يخدمه. وتابع قائلاً: "من الواضح أن إيران تختار التصعيد الإعلامي لتغطية عجزها عن التقدّم في الميدان النووي، بعد فشلها في إصلاح منشأة نطنز أو تطوير بدائلها الصناعية".
وزاد بالقول: "في أوروبا نُدرك أن إيران تتحدث بلغتين؛ لغة التفاوض مع واشنطن، ولغة التحدي مع أوروبا. لكننا لا نرى فرقاً بين الخطابين، فكلاهما يعكس رغبة في كسب الوقت، وليس رغبة في الحلّ".
وفي ما يتصل بالعلاقة مع واشنطن، أوضح المصدر أن الاتحاد الأوروبي بدأ يميل نحو مقاربة أكثر واقعية، قوامها الربط بين السلوك الإقليمي الإيراني والتقدّم النووي، قائلاً: "أيّ اتفاق جديد يجب أن يأخذ بعين الاعتبار تدخلات إيران في الإقليم. هذه ليست ملفات منفصلة، بل شبكة واحدة من النفوذ تُستخدم لتقويض الاستقرار في المنطقة".
وأضاف الدبلوماسي الأوروبي أنّ طهران تُخطئ في فهم طبيعة الموقف الغربي الحالي، موضحاً أن "المرحلة لم تعد مرحلة مقايضة، بل مرحلة مساءلة". وأردف: "في السابق، كانت أوروبا توازن بين الضغوط الأمريكية ورغبتها في الحفاظ على قنوات مع إيران، أما الآن فهناك شبه إجماع على أن الانخراط غير المشروط مع طهران لم يعد مجدياً".
وختم بالقول إن المرحلة المقبلة ستشهد تراجعاً واضحاً في "الصبر الأوروبي" تجاه الخطاب الإيراني، وأن الاتحاد الأوروبي بدأ فعلياً بمراجعة داخلية لمستقبل العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع إيران في ضوء استمرار التصعيد ضد الأوروبيين ورفضهم التوقيع على أي آلية رقابية جديدة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
المحلل السياسي السويسري المختص في الأمن الإقليمي والعلاقات الأوروبية –الشرق أوسطية، ماركوس فايس، قال خلال حديثه لـ"إرم نيوز" إن السلوك الإيراني الحالي يعكس عقلية الإنكار أكثر مما يعكس استراتيجية تفاوض.
فبحسب قوله، "إيران تتصرّف كما لو أن الضغط الدولي قابل للاستهلاك الزمني، لكنها تُخطئ في قراءة التحوّل الحاصل داخل العواصم الغربية، حيث لم تعد أوروبا تنظر إلى الملف النووي كملفٍ تقنيّ، بل كاختبارٍ لسلوك دولة تُصرّ على تجاوز قواعد النظام الدولي".
ويضيف فايس أنّ طهران تُقدّم تناقضها الداخلي بوصفه سياسة مدروسة، لكنها في الواقع تُظهر فقدان التنسيق بين المؤسسات السياسية والأمنية، وهو ما يفسّر ارتباكها أمام أي ضغطٍ منسّقٍ بين واشنطن وبروكسل.
ويقول: "إيران تحاول تعويض فشلها في استعادة التوازن الاقتصادي عبر افتعال لغة تحدٍّ سياسي، لكنها تفتقد الأدوات العملية التي تمكّنها من تحويل التصعيد إلى مكسب".
وبحسب فايس، فإنّ إيران تواجه لحظة مفصلية جديدة؛ فهي لم تعد قادرة على الاستمرار بسياسة المراوغة، لكنها في الوقت ذاته تخشى أن تؤدي العودة إلى المفاوضات بشروط غربية إلى كشف عمق الأزمة الداخلية. "السلطة الإيرانية اليوم تحكمها ذهنية البقاء، لذلك فهي تختار التصعيد الكلامي ضد أوروبا لتأجيل مواجهة الداخل الإيراني المتململ من العقوبات وتراجع مستوى المعيشة".
ويرى الخبير أن المرحلة المقبلة ستتّسم بوضوح أكبر في الموقف الغربي، وبانكماش خيارات طهران. فالأوروبيون والأمريكيون – بحسب تقديره – لن يذهبوا إلى اتفاقٍ جزئي جديد، بل إلى إدارة صارمة للأزمة تقوم على المراقبة والعقوبات الموجّهة بدلاً من الوعود الاقتصادية.
ويقول: "السيناريو الأقرب هو بقاء التوتر قائماً مع خطوات محدودة لاحتوائه، لكن من دون اختراق سياسي حقيقي. ستتجه واشنطن إلى تشديد الخناق المالي، بينما ستربط أوروبا أي اتصالٍ قادم بملفّات الأمن الإقليمي وسلوك إيران في الممرات البحرية".
ويختم فايس تحليله بالقول إنّ طهران تقترب من لحظة انكشافٍ سياسيٍّ أوسع، فالازدواج في الخطاب لم يعد ورقة مفيدة. "لقد نفد وقت إيران في المناورة، والمجتمع الدولي بدأ يتعامل معها بوصفها طرفاً يتهرّب من الالتزامات لا يفاوض عليها. المرحلة المقبلة ستكون اختباراً حقيقياً لقدرة النظام الإيراني على التكيّف مع واقعٍ لم يعد يقبل لغته القديمة".
من جانبه، أشار الباحث في الشؤون الأوروبية أمير عبد الجواد، خلال حديثه لـ"إرم نيوز" إلى أن السلوك الإيراني في هذه المرحلة لا يمكن فصله عن أزمته البنيوية داخل الإقليم، موضحاً أنّ طهران "تستخدم الملف النووي كأداة للمقايضة السياسية". ويضيف: "إيران لا تتعامل مع التفاوض بوصفه وسيلة لحلّ الأزمة، إنما كمنصة لإعادة تثبيت نفوذها في المنطقة".
ولفت عبد الجواد إلى أنّ إيران تُعيد توظيف التناقض بين خطابها الخارجي وواقعها الداخلي لتقديم نفسها كقوة متماسكة ومؤثرة في الإقليم، رغم أنّ أزماتها الاقتصادية والاجتماعية بلغت مستويات غير مسبوقة. ويضيف: "القيادة الإيرانية تدرك أن أي تنازل في الملف النووي سيُضعف صورتها أمام جمهورها الداخلي، لذلك تختار التصعيد اللفظي مع أوروبا كخيارٍ دعائي منخفض الكلفة، في وقتٍ تعجز فيه عن تحمّل تبعات مواجهة اقتصادية جديدة أو استمرار العزلة الدولية".
ورأى عبد الجواد أنّ المرحلة القريبة ستكون اختباراً مزدوجاً لطهران؛ فمن جهة، تواجه ضغطاً دولياً منظّماً يحاصر قدراتها الاقتصادية والتقنية، ومن جهة أخرى تواجه تراجعاً في ثقة حلفائها التقليديين الذين بدأوا يرون أن النظام الإيراني لم يعد قادراً على دفع ثمن تحالفاته القديمة. "سيحاول الإيرانيون الظهور بمظهر القادر على الصمود، لكن الحقيقة أنّهم محاصرون بسياساتهم، وعاجزون عن الانتقال من منطق المناورة إلى منطق الدولة".
في البنية السياسية الإيرانية، لا تُعبّر هذه الازدواجية عن تنوّعٍ في الرأي، إنّما عن اختلافٍ في أدوات إدارة الأزمة، فبينما يحاول الجناح الدبلوماسي تقديم طهران في صورة الدولة المرنة القادرة على العودة إلى المفاوضات، يصرّ التيار الأمني المرتبط بالحرس الثوري على تكريس سياسة الحافة النووية، بما يمنح إيران أوراق ضغطٍ إضافية في الإقليم.
ومع ذلك، فإنّ هذا النهج فقد قدرته على التخويف، إذ أصبحت لغة التهديد الإيرانية مكرّرة ومكشوفة أمام المجتمع الدولي.
الواقع أنّ إيران اليوم تواجه عزلة غير مسبوقة حتى بين شركائها؛ فروسيا التي استخدمتها طهران مظلةً سياسية في السنوات الماضية، باتت أكثر انشغالاً في حربها الأوكرانية وأقل استعداداً لتحدّي واشنطن بسبب الملف الإيراني، بينما الصين تلتزم براغماتية صارمة وتفصل بين التعاون التجاري والمخاطر السياسية. هذا الانكشاف الاستراتيجي يجعل من الخطاب الإيراني المزدوج مؤشراً على العجز.
في الجوهر، لا تعكس تصريحات عراقجي وبقائي وجهين لسياسةٍ واحدة بقدر ما تعبّر عن ارتباكٍ في إدارة التناقضات الداخلية ومحاولة لتضخيم الهامش الدبلوماسي الذي لم يعد قائماً فعلياً. فإيران التي تقول إنها لا تسعى إلى سلاحٍ نووي، تواصل في الوقت ذاته تخصيب اليورانيوم بنِسَبٍ تُقارب الحدّ العسكري. النتيجة أنّ ازدواج الخطاب لم يعد أداة تفاوضٍ بقدر ما أصبح دليلاً على مأزقٍ سياسيٍّ عميق.