يشكل ملف تايوان أحد أكثر بؤر التوتر حساسية في النظام الدولي المعاصر، حيث يتقاطع فيه التنافس الجيوسياسي مع المصالح الاقتصادية والتحالفات الإقليمية.
وبينما تعتبر الصين أن أي تحرك أمريكي يشجع نزعات الاستقلال في الجزيرة يمثل تهديدًا مباشرًا لوحدتها وسيادتها، ترى الولايات المتحدة أن دعم تايوان ضرورة للحفاظ على توازن القوى في آسيا.
هذا التعارض يضع المنطقة على حافة مواجهة محتملة، تتأرجح بين الردع العسكري وضغوط التجارة وحسابات السياسة الداخلية في كل من بكين وواشنطن.
في هذا السياق، أكدت الدكتورة سريبارنا باثاك، أستاذ الدراسات الصينية في جامعة "أو. بي. جيندال" العالمية، أن بكين تتابع عن كثب ردود الفعل الدولية تجاه الضغوط الأمريكية، معتبرة أن أي تعديل في الموقف الأمريكي، مثل تخفيف صياغة وزارة الخارجية بشأن عدم دعم استقلال تايوان، يُقرأ في الصين كإشارة استفزازية؛ ما دفع بكين إلى تنظيم مناورات عسكرية متقدمة وإرسال رسائل ردع واضحة تهدف إلى إعادة فرض قواعد اللعبة.
وأضافت باثاك في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" أن الضغوط الاقتصادية الأمريكية، من رسوم جمركية وقيود على التكنولوجيا، تشكل جزءًا لا يتجزأ من معادلة تايوان؛ فواشنطن تسعى إلى إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية، وخاصة في قطاع أشباه الموصلات؛ ما يضاعف من القيمة الاستراتيجية للجزيرة ويجعلها ساحة مواجهة حساسة.
ولفتت إلى أن هذه السياسات قد تدفع بكين إلى التصعيد واللجوء إلى ورقة القومية لحشد الداخل الصيني.
وأشارت أستاذة الدراسات الصينية إلى أن إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب كشفت تناقضًا في السياسة الأمريكية؛ فرفضه تمرير مساعدات عسكرية لتايوان بقيمة 400 مليون دولار، واستخدامه الورقة الأمنية في المفاوضات التجارية مع الصين، أعطى انطباعًا لدى بكين بأن الابتزاز قد يحقق نتائج.
ووفقًا لـ"باثاك"، فإن اتهاماته لتايوان بـ"سرقة" صناعة الرقائق وتهديده بفرض رسوم تصل إلى 100% على وارداتها زادت من قلق تايبيه.
وحول الموازنة التقليدية في السياسة الأمريكية، لفتت باثاك إلى أن نهج "الغموض الاستراتيجي"، الذي يجمع بين تسليح تايوان ودعمها دون الاعتراف بها كدولة مستقلة، بدأ يتعرض للاهتزاز مع تصاعد مناورات ترامب للبحث عن صفقة مع بكين.
كما أن هذا الوضع يضعف ثقة تايوان في المظلة الأمنية الأمريكية ويفتح الباب أمام حسابات غير مستقرة.
وشددت على أن بكين تستثمر بقوة في الإعلام والدبلوماسية الناعمة لتقويض التعاطف الدولي مع تايوان، عبر حملات دعائية منظمة وحضور قوي على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي لنشر محتوى مضلل، بهدف إقناع الرأي العام الإقليمي والدولي بأن الوحدة مع الصين "حتمية تاريخية".
واختتمت باثاك بالقول إن معادلة تايوان ستظل محكومة بثلاثة محددات أساسية: حذر بكين من أي إعلان استقلال، وضغوط واشنطن الاقتصادية والسياسية، وموقف الحلفاء الآسيويين الذين يخشون الانجرار إلى صراع مفتوح في قلب آسيا.
من جانبه، أوضح الخبير في الشؤون الآسيوية محمد صلاح الدين في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" أن التحديات الحقيقية التي تواجه الصين ليست عسكرية بحتة، بل تتعلق بالبعدين الاستراتيجي والاقتصادي، مشيرًا إلى أن العامل الأمريكي يبقى الحاسم في حال تدخل مباشر في الصراع.
وأكد صلاح الدين أن الصين عززت قدراتها البحرية بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، من خلال بناء مدمرات وحاملات طائرات حديثة؛ ما يمنحها القدرة على فرض حصار سريع على تايوان إذا اندلع صراع.
لكنه شدد على أن بكين تفكر بمنطق "الحسابات الباردة"، إذ تدرك أن الدخول في حرب سيعني خسائر اقتصادية هائلة، ولهذا فهي تميل إلى تجنب المواجهة العسكرية ما دامت هناك فرص لتحقيق أهدافها عبر السلم والضغط غير المباشر.
وأشار الخبير إلى أن الردع في المنطقة يظل مرهونًا بالسياسة الأمريكية، خاصة أن تصريحات الرئيس جو بايدن بشأن الدفاع عن تايوان لم تتحول إلى التزامات واضحة.
وأضاف أن خطوات ترامب السابقة، مثل إشعال الحرب التجارية وفرض الرسوم الجمركية، أضعفت ثقة الحلفاء الآسيويين في الموقف الأمريكي وأثرت سلبًا على قدرة واشنطن في بناء مظلة ردع موحدة.
وتطرق صلاح الدين إلى "الدرس الأوكراني"، مؤكدًا أن تايوان تتابع عن قرب تجربة كييف في مواجهة روسيا، وتحاول تطوير استراتيجية حرب غير متكافئة تمكّنها من مقاومة خصم أقوى؛ لكن التحديات الداخلية، من خلافات برلمانية وصعوبات مرتبطة بزيادة ميزانية الدفاع، ما تزال تعرقل جاهزية الجزيرة للتعامل مع أي تصعيد محتمل.
وختم صلاح الدين بالقول إن العامل الأكثر حساسية يبقى "إعلان الاستقلال" من جانب تايوان، وهو الخط الأحمر الذي سيدفع بكين إلى استخدام القوة إذا لزم الأمر، رغم تمسكها المبدئي بالحل السلمي.
ويعكس التداخل بين تصريحات الخبراء أن ملف تايوان لم يعد مجرد قضية داخلية صينية أو ورقة أمريكية في مواجهة بكين، بل تحوّل إلى عقدة استراتيجية تعكس صراعًا معقدًا بين الردع العسكري وضغوط الاقتصاد، وبين تحالفات إقليمية وحسابات داخلية.
ومع غياب وضوح الرؤية الأمريكية واستمرار الصين في تعزيز قوتها الصلبة والناعمة، يبقى مستقبل تايوان مفتوحًا على سيناريوهات تتراوح بين التهدئة الدبلوماسية والانفجار المفاجئ.