مسيّرة تستهدف سيارة على طريق بلدة مركبا جنوبي لبنان
عكست استجابة الجزائر لرسالة الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، المتضمنة دعوة للرئيس عبد المجيد تبون للإفراج عن الكاتب الفرنسي -الجزائري بوعلام صنصال، مزاجًا سياسيًا "تصالحيًا"، وتلميحًا إلى استعدادها للقبول بدور محتمل قد تقوم به برلين لإنهاء الأزمة الفرنسية الجزائرية.
على المستوى الدبلوماسي، كان يمكن للجزائر أن تحتفظ بالرسالة الألمانية "سرية" في أرشيف الرئاسة، كما جرت العادة في قضايا ذات حساسية سياسية، من دون أن تعلن مضمونها للملأ، غير أن الترحيب بالرسالة، والإفراج عن الكاتب، قد يفتح الباب أمام احتمالات تطال العلاقات الجزائرية الفرنسية التي تمر بمرحلة برود منذ أشهر.
ويرى خبراء أن الجزائر أرادت من خلال الإفراج عن الكاتب أن توجه رسالة رمزية لباريس، عبر الإظهار للرأي العام المحلي والدولي أن ثمة شراكات أخرى تربطها بدول أوروبية، وأنها ليست معزولة عن "القارة العجوز"، رغم اعتمادها المفرط خلال العقود الفائتة على العلاقات مع فرنسا.
وتتمتع العلاقات الفرنسية الجزائرية بزخم خاص؛ بسبب التاريخ الاستعماري الفرنسي في الجزائر، والذي دام 132 سنة (1830-1962)، والتأثيرات العميقة لذلك، لاحقًا، على الجوانب الثقافية والاجتماعية واللغوية، ناهيك عن الجوانب السياسية والاقتصادية بين البلدين.
ويعرب خبراء عن اعتقادهم أن الجزائر، التي تحاول تنويع شراكاتها الأوروبية، ربما تسعى، من خلال التجاوب مع الدعوة الألمانية، للإيحاء بإمكانية التخلص من "الإرث الفرنسي الثقيل"، والتقليل من اعتبار فرنسا بوصفها البوابة الرئيسة نحو القارة الأوروبية، ما يعني تاليًا، أن الإفراج عن صنصال جاء بمنزلة إعلان عن تموضع جزائري جديد في معادلة العلاقات مع أوروبا.
ولا بد من الإشارة إلى اللغة الودية التي صاغ بها شتاينماير رسالته؛ إذ ربط طلب العفو عن صنصال بـ"الروح الإنسانية والرؤية السياسية الثاقبة" للرئيس تبون، ما أضفى على الرسالة طابعًا أخرجه من خانة "الإملاء السياسي"، وأتاح للرئاسة الجزائرية قراءتها كـ"لفتة تكريم"، وتعبير عن الصداقة الشخصية بين تبون وشتاينماير.
يلاحظ خبراء أن هذه الخطوة الجزائرية تمهد الأرضية لمفاوضات مع باريس، وتشجع في الآن ذاته، برلين على الدخول في خط الأزمة، بعد أن لبت الجزائر مطلبها الإنساني كمؤشر للتعبير عن حسن النوايا.
ويشدد خبراء على أنه لا يمكن، بأي حال، تجاهل البعد السياسي للمبادرة الألمانية الإنسانية، واستجابة الجزائر لها، خصوصًا إذا ما تم إدراجها في سياق الجهود الأوروبية التي تبذل من أجل ترميم العلاقة بين باريس والجزائر.
من هنا، يرجح خبراء أن تتحول برلين إلى وسيط مقبول للتقارب بين باريس والجزائر، خصوصًا في ضوء العلاقات الوطيدة بين ألمانيا والجزائر، ولا سيما في الحقل الاقتصادي والذي ينهض على شراكة متنامية في مجالات الطاقة، خصوصًا الغاز والهيدروجين الأخضر، إلى جانب تعاون صناعي وتكنولوجي متزايد في إطار تنويع الجزائر لشركائها الأوروبيين.
ومن البديهي كذلك، أن دخول برلين على خط الأزمة سيكون موضع ترحيب فرنسي، فالبلدان يعدان أبرز حليفين في القارة، فضلًا عن التنسيق المستمر بين برلين وباريس في قضايا مختلفة قد تكون العلاقات الفرنسية الجزائرية، من الآن فصاعدًا، إحداها.
ويذهب الخبراء إلى أبعد من ذلك، إذ يلمحون إلى أن المبادرة الألمانية قد تكون أصلًا بتشجيع فرنسي غير معلن؛ بهدف التمهيد لوساطة من بلد مقبول من الطرفين، هو ألمانيا.
كما يستبعد خبراء لجوء ألمانيا، في حال لعب دور الوساطة، إلى استخدام نفوذها السياسي، بل ستلجأ إلى ما يمكن تسميته بـ"القوة الناعمة" عبر استثمار ملفي الاقتصاد والدبلوماسية.
وتعتبر ألمانيا أحد أهم شركاء الجزائر في مشاريع اقتصادية طموحة، وبالتالي ووفقًا لما يرى خبراء، فإنه يمكن لألمانيا العمل على تعزيز الاستثمارات المشتركة في قطاعات استراتيجية كالهيدروجين الأخضر والطاقة المتجددة، في محاولة لتليين الموقف الجزائري بشأن العلاقة مع باريس.
كما تمتلك برلين قدرة على توجيه مواقف الاتحاد الأوروبي تجاه التعاون الاقتصادي مع الجزائر، ما يمنحها نفوذًا تفاوضيًا غير مباشر، ويجعل تأثيرها ملموسًا دون استخدام أدوات ضغط مباشرة.
ولا يمكن إغفال تطورات المشهد السياسي الفرنسي، كرافعة لنجاح الوساطة، بحسب خبراء، فالمبادرة الألمانية للإفراج هن صنصال جاءت في توقيت مناسب تزامن مع تغييرات في الدبلوماسية الفرنسية، أبرزها تعيين وزير خارجية جديد، وهو جان نويل بارو، المعروف بموقفه التصالحي تجاه الجزائر، بعد مرحلة من الجمود في عهد سلفه.
ولا بد من الإشارة كذلك إلى المكانة التي يتمتع بها صنصال في الأوساط الثقافية الألمانية، باعتباره حائزًا على "جائزة السلام" لاتحاد الناشرين الألمان عام 2011، وهو ما يضفي بُعدًا ثقافيًا وإنسانيًا على أي وساطة ألمانية محتملة.
ومع ظهور مؤشرات على استئناف الحوار الثنائي وعودة الاتصالات على مستوى عالٍ بين الجزائر وباريس، قد يشكل الإفراج عن صنصال بداية رمزية لانفراجة أوسع بين البلدين تقودها برلين هذه المرة، التي تنتهج دبلوماسية هادئة لتسوية قضايا صاخبة.