بين خطاب رسمي يتحدث عن الصمود والانتصار الإستراتيجي الروسي وتحركات غربية تراهن على إنهاك طويل الأمد للحرب الأوكرانية، تقف موسكو أمام اختبار وجودي يعيد تعريف مكانتها في النظام الدولي.
ورغم أن الحرب الروسية الأوكرانية لم تنته مع اقترابها من عامِها الرابع عند خطوط التماس، بل امتدت آثارها إلى سؤال أعمق يلاحق الدولة الروسية نفسها، ما الذي تبقّى من صورة القوة العظمى بعد أطول وأعنف مواجهة تخوضها موسكو من انهيار الاتحاد السوفيتي؟
ومنذ اندلاع الحرب، تحولت موسكو من فاعل دولي يسعى لتوسيع نفوذه بهدوء إلى قوة في مواجهة مفتوحة مع العرب ليس فقط عسكريًّا، بل اقتصاديًّا وسياسيًّا أيضًا.
ودفع العديدُ من العوامل موسكو إلى نمط اقتصاد الحرب، أبرزها العقوبات غير المسبوقة وقطيعة أوروبية شبه كاملة، وإعادة تشكيل خرائط الطاقة والتجارة، هو ما دفعها إلى الاعتماد المتزايد على الذات وعلى شركاء خارج الفضاء الغربي.
في المقابل، لم تنهر الدولة الروسية كما توقعت بعض العواصم الغربية، ونجحت في الحافظ على الاقتصاد على قدر من التماسك، واستمر تمويل العمليات العسكرية، وفي الوقت ذاته وقفت مؤسسات الدولة قائمة دون اهتزاز داخلي واسع.
وعلى مدار 4 سنوات، أعادت الحرب إحياء خطاب قومي يرى في الصراع مع الغرب معركة تاريخية للدفاع عن الدولة ووحدتها، وهو خطاب نجح في حشد قطاعات واسعة من المجتمع الروسي خلف القيادة.
وبين هذا وذاك، ينقسم الجدل حول سؤال، هل استطاعت روسيا تثبيت نفسها كقوة عظمى قادرة على التكيف مع عالم معادٍ، رغم أن الحرب وضعتها على مسار إنهاك بطيء سيظهر أثره لاحقًا؟
ويرى الخبراء أن روسيا، رغم الحرب وتداعياتها، فلا تزال تنظر إلى نفسها بوصفها دولة عظمى لا يمكن فصلها عن ثقلها التاريخي والإستراتيجي، مشيرين إلى أن القيادة الحالية نجحت في ترسيخ تماسك داخلي وتعزيز الشعور القومي؛ ما مكّن الدولة من الصمود أمام محاولات الاستنزاف الغربي.
وأضاف الخبراء أن الحرب عززت التأييد الداخلي للنظام الروسي، لكنها في المقابل عمّقت عزلة موسكو أوروبيًّا، حيث ستظل العلاقات مع أوروبا باردة وحذرة حتى في حال التوصل إلى تسوية سياسية.
ولفتوا إلى أن مستقبل القوة الروسية سيتحدد بقدرتها على تحويل المكاسب العسكرية والسياسية إلى استقرار طويل الأمد دون الانزلاق إلى إنهاك اقتصادي أو تصعيد دولي أوسع.
في البداية، أكد نزار بوش، أستاذ العلوم السياسية بجامعة موسكو، أن روسيا لا يمكن إلا أن تكون دولة عظمى، مشيرًا إلى أن التاريخ الحديث يثبت هذه الحقيقة بشكلٍ واضحٍ.
وكشف في تصريح لـ"إرم نيوز" أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورث عن بوريس يلتسين دولة منهكة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وعسكريًّا، دولة لم تكن كلمتها مسموعة لا في أوروبا ولا في أمريكا، وهو وضع كان الغرب راضيًا عنه في ذلك الوقت.
وقال بوش، إن بوتين خلال فترة لم تتجاوز 10 سنوات نجح في التخلص من الديون الثقيلة التي كانت تقيّد الدولة الروسية، وأعاد بناء الجيش والاقتصاد والزراعة خطوة بخطوة؛ ما سمح لروسيا بالبدء تدريجيًّا في استعادة مكانتها ومجدها السوفيتي السابق، وإن كان ذلك بوتيرة بطيئة.
وأضاف أستاذ العلوم السياسية بموسكو، أن غياب قيادة بحجم بوتين كان سيؤدي على الأرجح إلى تفكك روسيا إلى بضع دول، وعدم بقائها ككيان واحد.
وأشار إلى أن دولًا غربية عدة وفي مقدمتها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا لا تزال تراهن على إنهاك روسيا اقتصاديًّا عبر إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، إلا أن هذه الرهانات لم تنجح؛ لأن الغرب لا يفهم طبيعة المجتمع الروسي، الذي يتوحّد خلف دولته في مواجهة أي عدوان خارجي، كما أثبت التاريخ في الحرب العالمية الثانية ضد النازية، وفي هزيمة نابليون، وكذلك في الحروب مع البولنديين وفنلندا.
وشدد على أن روسيا لا يمكن أن تكون سوى دولة عظمى وقطب عالمي؛ لأن استمرارها كقوة كبرى يعكس ثقلها التاريخي والإستراتيجي.
ولفت نزار بوش، إلى أن نهاية الحرب في أوكرانيا ستكون بالضرورة في صالح روسيا، وإلا فإن ذلك سيهدد وجود الدولة الروسية نفسها وقد يفتح الباب أمام تصعيد عالمي.
وأضاف بوش أن روسيا، بقدراتها الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، وبمساحتها الجغرافية الشاسعة، تُعد ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم؛ ما يكرس موقعها كدولة عظمى وقطب دولي.
من جانبه، قال ياسين رواشدي، الأكاديمي والدبلوماسي المتخصص في شؤون أوروبا الشرقية، إن تقييم موقع روسيا بعد الحرب يتطلب النظر إلى 3 أبعاد رئيسية، البُعد القومي الداخلي، والبُعد الأوروبي، ثم البُعد العالمي.
وأكد رواشدي، في تصريحات لـ"إرم نيوز" أن الرئيس فلاديمير بوتين سيُنظر إليه داخل روسيا باعتباره بطلًا قوميًّا إذ سيُقدم للرأي العام بوصفه من استعاد أراضي ومواقع إستراتيجية، وعلى رأسها شبه جزيرة القرم، وهو ما يُعد إنجازًا كبيرًا في الوعي الشعبي الروسي.
وأشار إلى أن الصورة في أوروبا ستختلف تمامًا، حيث ستظل ترى الرئيس بوتين ونظامه في حالة عزلة لفترة طويلة، وحتى إذا عادت قنوات التواصل، فإن العلاقات ستبقى باردة وحذرة للغاية.
وأضاف الأكاديمي والدبلوماسي المتخصص في شؤون أوروبا الشرقية، أن على المستوى العالمي قد يحظى بوتين بتقدير أكبر في دول العالم الثالث، التي تميل إلى احترام المنتصر العسكري، وقد يُنظر إليه هناك كبطل عالمي حتى وإن كان يُصنف باعتباره غازيًا أو معتديًا.
وشدد على أن هذا التصور لن يعيد روسيا إلى مكانتها السابقة بالكامل، موضحًا أن صورة البطل العالمي لبوتين لن تكون كما كانت قبل غزو أوكرانيا، سواء على الصعيد العسكري أو الاقتصادي، بسبب التداعيات الواسعة للحرب.
وأكد الأكاديمي والدبلوماسي المتخصص في شؤون أوروبا الشرقية، أن موقع روسيا المستقبلي ونظرة العالم لها، وخصوصًا أوروبا، سيتحددان إلى حد كبير وفق مخرجات الحل السياسي المحتمل للأزمة الأوكرانية.
وأوضح رواشدي أن أي اتفاق سياسي يتضمن تخلي أوكرانيا عن أجزاء من أراضيها سيُفسر داخل روسيا باعتباره انتصارًا عسكريًّا وسياسيًّا؛ ما سيعزز التأييد الداخلي للرئيس بوتين ونظامه.
وأشار إلى أن هذا التوجس الأوروبي يستند إلى تجارب سابقة، إذ رأت أوروبا كيف تعهدت روسيا بعدم تكرار العدوان عقب ضم القرم، ثم عادت لاحقًا لتوسيع عملياتها في شرق أوكرانيا؛ ما أدى إلى تآكل الثقة بشكل كبير.
وأضاف أن أوروبا كانت تنظر قبل الغزو إلى روسيا كشريك اقتصادي مهم، خاصة بالنسبة لألمانيا، لكن تلك الشراكات انهارت بالكامل بعد الحرب، لتدخل العلاقات مرحلة جديدة من التوتر.