بينما احتفى الوسط الدبلوماسي بخطوة وصفت بالتاريخية عبر توقيع اتفاق "تريب" (مسار ترامب للسلام والازدهار الدولي) بين أرمينيا وأذربيجان برعاية مباشرة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لم تُخْفِ جارتهما الجنوبية، إيران، قلقها العميق من تداعيات هذا المشروع على نفوذها الإقليمي ومستقبلها في جنوب القوقاز.
وكشف "جيمس تاون فاونديشن" أن الاتفاق، الذي يمنح أذربيجان حق الوصول البري إلى إقليم نخجوان عبر الأراضي الأرمنية، بدا وكأنه اختراق سياسي يخفف من توتر عقود بين يريفان وباكو، لكنه في المقابل حمل لطهران إشاراتٍ مقلقة، إذ ترى أن الدور الأمريكي المباشر في صياغة الاتفاق وإشراف شركات أمريكية على إدارة الممر يمثّل تهديدًا مزدوجًا: تقليص نفوذها في المنطقة وتعريض تجارتها مع أرمينيا لمخاطر جديدة.
تجدر الإشارة إلى أن إيران تملك حدودًا قصيرة نسبيًّا مع أرمينيا تمتد لنحو 40 كيلومترًا، لكنها تشكّل رئة استراتيجية لطهران في ظل الضغوط الدولية والعقوبات المتزايدة. ومن هنا، فإن أي مسار جديد يربط أذربيجان بجيب ناخجوان قد يتحول – من وجهة نظر طهران – إلى ممر تطويق يحدّ من أهميتها الجيوسياسية ويضعف مشروع "ممر آراس" الذي تعمل على تنفيذه لربط أراضيها مباشرة بالمنطقة.
من جهتهم، اعتبر مسؤولون إيرانيون أن الاتفاق يخدم استراتيجية أمريكية لتطويق بلادهم، خاصة بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل والضربات التي استهدفت منشآتها النووية، ولم يتردد مستشار المرشد الإيراني، علي أكبر ولايتي، في وصف المشروع بأنه "مقبرة لمرتزقة ترامب".
وذكر التقرير أنه وفي يريفان نفسها، لم يخْلُ الاتفاق من أصواتٍ معارِضة رأت فيه تنازلاً أُجبر رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان على قبوله تحت ضغط خارجي، بينما في طهران، تركزت المخاوف على ثلاث نقاط أساسية، وهي قرب الممر من الحدود الإيرانية – الأرمنية وما يحمله من تهديدات أمنية، وأن المسار الجديد يتقاطع مع الطريق السريع الذي تبنيه شركات إيرانية لربطها بأرمينيا، ووضع إدارة المشروع تحت إشراف أمريكي مباشر، بما يمنح واشنطن قدرة على مراقبة وتقييد حركة التجارة العابرة للحدود.
وفي السياق، وبرغم تطميناتٍ قدَّمها المسؤولون الأرمن خلال زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى يريفان، فإن تلك المخاوف لم تهدأ؛ نظرًا لأن تنفيذ اتفاق "تريب" سيعني تلقائيًّا تقليص اعتماد إقليم نخجوان على واردات الطاقة الإيرانية، بفضل ربطه المباشر بأذربيجان وتركيا، كما أن الممر الجديد يفتح الباب أمام مشاريع إقليمية ضخمة مثل مشروع "الترانزيت العابر لبحر قزوين"، الذي يتيح تصدير غاز تركمانستان إلى أوروبا عبر أذربيجان وتركيا، متجاوزًا الأراضي الإيرانية.
وبالنسبة لإيران، فإن فقدان هذه الأوراق الاقتصادية يعني خسارة نفوذ إضافي في وقت تحاول فيه مواجهة عزلة دولية خانقة، ومع انفتاح أرمينيا على الغرب وتراجع اعتمادها على روسيا، يزداد القلق الإيراني من تحولات إقليمية قد تجعلها الخاسر الأكبر في لعبة التوازنات الجديدة.
يعتقد الخبراء أن إيران يبدو أنها تُدرك أن مشهد ما بعد اتفاقية "تريب" لا يشبه ما قبلها؛ فالمسار الجديد لا يفتح باب السلام بين أرمينيا وأذربيجان فحسب، بل يُعيد صياغة معادلات القوة في جنوب القوقاز، ومع انحسار نفوذ موسكو في المنطقة، وصعود دور واشنطن، تجد طهران نفسها أمام تحديات غير مسبوقة تهدد دورها التقليدي كفاعل إقليمي رئيسي.
وبينما تسعى الأطراف الأخرى إلى تعزيز مكاسبها، تبقى إيران في موقع المتوجس الذي يحاول حماية حدوده ومصالحه، وسط مؤشرات على أن مسار ترامب قد يتحول إلى نقطة انعطاف تاريخية في موازين النفوذ الإقليمي.