انخرط رئيس الوزراء الكندي مارك كارني في أكتوبر 2025، قبيل لقائه الوشيك مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في معركةٍ غير مسبوقة: كيف يمكن لكندا أن تنجو بينما تتنفس عبر الرئتين الأمريكيتين، خصوصًا أن الرئيس الأمريكي يضيّق الخناق التجاري على أوتاوا؟
وبحسب "إيكونوميست"، فإن كارني، القادم من عالم المال العالمي، لا يبدو مستعدًّا للعب دور "التابع المطيع" لواشنطن بعد الآن.
ويرى الخبراء أن كارني من المؤكد أنه أدرك حقيقة نهاية "العصر الذهبي للتكامل" مع الولايات المتحدة؛ فقد تحوّلت الشراكة التاريخية إلى علاقة مشوبة برسوم جمركية باهظة وابتزازٍ تجاري، ولذلك فإن كارني لن يواجه ترامب مباشرة، بل بالتحوّل التدريجي: تخفيف الضرائب في الداخل، وإزالة الحواجز التجارية بين المقاطعات، وبناء ما يسميه "السوق الكندية الموحدة" كخط دفاع داخلي أمام الضغط الأمريكي.
في رؤيته الجديدة، لا تنجو كندا بالتحالفات، بل بالبناء؛ بما في ذلك مشاريع ضخمة للبنية التحتية، وموانئ جديدة، وأنابيب نفط، وشبكات كهرباء ومعادن استراتيجية، وإحياء صناعة الإسكان لتخفيف كلفة المعيشة التي تهدد شعبيته، كما أن كارني يفضل ألَّا يهاجم ترامب بالتصريحات، بل يردّ عليه بالمصانع والمنازل والطرقات.
وبحسب مراقبين فإن طموح كارني يتجاوز الداخل؛ ففي الوقت الذي تنغلق فيه أمريكا على نفسها، يسعى لتحويل كندا إلى "جسر تجاري جديد" بين أوروبا وآسيا، كما أن مشروعه الجريء لدمج اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP) مع الاتحاد الأوروبي قد يخلق أكبر كتلة تجارية حرّة خارج نفوذ واشنطن وبكين، وبهذه الخطوة، يعلن كارني ضمنيًّا أن زمن احتكار الولايات المتحدة لقواعد التجارة العالمية قد ولّى.
لكن مع ذلك، لا يخفي كارني إدراكه للواقع؛ فكندا ستظل عالقة بجوار عملاق لا يمكن تجاهله، ومن الأفضل ألَّا يحارب ترامب، بل يتعايش معه ويفاوضه على الرسوم، ويغازله في العلن ليبني استقلاله في الخفاء، قائلًا: "يمكننا أن نعطي أنفسنا أكثر مما يمكن لأمريكا أن تأخذه منا"، في عبارة تختصر فلسفته السياسية الجديدة.
وبعد عقودٍ من الانصياع الاقتصادي، يبدو أن كندا وجدت متعة التمرّد، غير أن كارني يجد نفسه أمام معادلةٍ لا مفرّ منها: لا يمكنه تجاوز ترامب، لكنه لم يعد مستعدًّا للانحناء له أيضًا؛ فالرئيس الأمريكي الذي يلمّح علنًا إلى رغبته في "ضمّ كندا"، بات يتعامل مع جارٍ لم يعد يرى نفسه تابعًا، بل شريكا مضطرا داخل علاقة غير متكافئة.
وبينما صرَّح كارني أنه أصبح يتحدث مع ترامب باستمرار، ويصفه بأنه "ذكي وحاسم"، فإن ما يقرؤه بين السطور أهم من الأوصاف: أن القوة وحدها لم تعد تكفي لإخضاع الحلفاء، وأن الاقتصاد الكندي بدأ يتصرّف كمن يختبر لذة العصيان بعد عقود من الطاعة.
ويتوقع محللون أن كارني قد ينجح في بناء "كندا قوية"، لكن القوة هنا ليست في الانفصال عن أمريكا، بل في القدرة على البقاء بجانبها دون أن يذوب فيها؛ الأمر الذي يعد معادلة تمرّدٍ داخل حدود الهيمنة، حيث تحاول أوتاوا أن تكتب فصلاً جديدًا في علاقةٍ قديمة، دون أن تمزّق الصفحة كلها.