فيما تتزايد المؤشرات على اقتراب لحظة الحسم في المواجهة الأمريكية–الفنزويلية، تبدو كراكاس غارقة في استعراضات إعلامية تغطي على واقع عسكري متآكل واقتصاد على حافة الانهيار. فخطط "المقاومة المطوّلة" التي تتحدث عنها الحكومة ليست سوى اعتراف ضمني بالعجز، ومحاولة لتسويق "الفوضى" كخيار دفاعي، بعدما فشل الجيش النظامي في الحفاظ على تماسكه أو تحديث قدراته.
فخطط "المقاومة المطوّلة" التي تتحدث عنها الحكومة الفنزويلية، ليست سوى اعتراف ضمني بالعجز، ومحاولة لتسويق "الفوضى" كخيار دفاعي، بعدما فشل الجيش النظامي في الحفاظ على تماسكه أو تحديث قدراته، بحسب مراقبين.
التسريبات الأخيرة التي تحدثت عن اعتماد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو على تكتيكات "حرب العصابات" تعكس أزمة حقيقية في بنية المؤسسة العسكرية الفنزويلية، فهي جيش يفتقر إلى الإمداد والجاهزية والانضباط، ولم يعد قادراً على تنفيذ أي عمليات منظمة تتجاوز الطابع المحلي أو الدفاعي المحدود.
لذلك لجأت القيادة السياسية إلى ما يمكن وصفه بسياسة "الانهيار المتحكَّم به" عبر خلق فوضى داخلية تجعل البلاد غير قابلة للحكم أو السيطرة في حال تعرضت لهجوم خارجي.
في المقابل، تتابع واشنطن المشهد بدقة، فهي لا ترى في فنزويلا خصمًا عسكريًا، بل نموذجاً لنظام فقد شرعيته، ويهدد استقرار الإقليم.
المقاربة الأمريكية الحالية ليست موجهة ضد الدولة الفنزويلية بقدر ما تستهدف تفكيك بنية السلطة التي حولت البلاد إلى مركز نفوذ روسي وإيراني وواجهة لتهريب النفط والسلاح والمخدرات.
ومن هذا المنطلق، فإن الحديث عن "المقاومة الوطنية" يبدو في واشنطن مجرد غطاء لمشروع فوضوي تسعى من خلاله الحكومة إلى ابتزاز المجتمع الدولي، وإطالة عمرها السياسي.
تقديرات المراقبين في العواصم الغربية تشير إلى أن الجيش الفنزويلي لم يعد يمتلك سوى قدرات رمزية على الرد، فمعداته القديمة، التي تعود إلى عقود من التعاون مع موسكو، لم تخضع لأي تحديث فعلي، في حين باتت الانقسامات داخل صفوفه علنية.
وكثير من وحدات الجيش تعتمد على شبكات محلية لتأمين الغذاء والتمويل، وبعض قادته أصبح أقرب إلى أمراء مناطق منه إلى ضباط نظاميين. لذلك تتحدث المصادر الأمريكية عن أن أي ضربة محدودة أو عملية استهداف دقيقة لبنية القيادة والسيطرة في كاراكاس ستكون كافية لإحداث انهيار سريع في منظومة الدفاع.
يأتي ذلك، بعد إعلان وزير الحرب الأمريكي بيت هيغسيث، الجمعة، إطلاق الولايات المتحدة عملية "الرمح الجنوبي" ضد الإرهابيين المرتبطين بتجارة المخدرات في نصف الكرة الغربي، على حد تعبير واشنطن.
قال مصدر دبلوماسي أمريكي، إن "إدارة الرئيس دونالد ترامب تتعامل مع التطورات في فنزويلا على أساس أن النظام دخل مرحلة التآكل الذاتي، ولم يعد قادرًا على فرض السيطرة الميدانية حتى داخل العاصمة".
وأضاف المصدر لـ"إرم نيوز"، أن "واشنطن لن تتسرّع في أي عمل عسكري مباشر، لكنها في المقابل لن تسمح بأن تتحوّل الفوضى التي يلوّح بها مادورو إلى واقع إقليمي يهدد الأمن في البحر الكاريبي".
وأوضح أن "الخيارات الموضوعة على الطاولة تتراوح بين تشديد الخناق الاقتصادي وتعطيل شبكات التهريب التابعة للنظام، وصولًا إلى تنفيذ ضربات دقيقة تستهدف مراكز القيادة والسيطرة"، مشيرًا إلى أن الهدف الأمريكي هو "كبح الفوضى التي يحاول النظام تصديرها وتجفيف مصادر تمويله المرتبطة بأنشطة غير شرعية".
وتابع أن "الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية ترصد في الوقت الحالي تحرّكات داخل الجيش الفنزويلي تشير إلى تململ واسع في صفوف الضباط المتوسطين، وأن بعض الوحدات العسكرية بدأت تتجنّب الانخراط في أي مواجهات محتملة، ما يعني أن النظام يفتقد إلى قاعدة صلبة للدفاع عن نفسه".
وأشار المصدر، إلى أن "الإدارة الأمريكية تعمل بالتنسيق مع دول في أمريكا اللاتينية على وضع خطط طوارئ إنسانية لمواجهة أي موجة نزوح جديدة قد تنتج عن انهيار مفاجئ للنظام، مؤكدًا أن التعامل مع فنزويلا بعد مادورو سيكون مختلفًا جذريًا، وأن الأولوية ستكون لإعادة الاستقرار المؤسسي ووقف التسلّح غير الشرعي، وتأمين الممرّات البحرية".
ولفت المصدر الدبلوماسي، إلى أن "الولايات المتحدة تعمل حاليًا على بناء إجماع إقليمي صلب حول المرحلة الانتقالية المقبلة في فنزويلا، بحيث لا يُترك فراغ بعد انهيار النظام. لذلك تجري مشاورات مع كولومبيا، والبرازيل، وجزر الكاريبي، لتنسيق أي تحرك سياسي أو أمني".
وأضاف أن "التقديرات الأمريكية الأخيرة تشير إلى أن المسار داخل فنزويلا يتجه نحو انقسام تدريجي في بنية السلطة، بين جناح سياسي يحاول البحث عن مخرج تفاوضي وآخر أمني متشدّد يرى في التصعيد والفوضى وسيلة لشراء الوقت".
وقال إن واشنطن "تراقب هذا الانقسام عن كثب، وتعتبر أن اللحظة الحالية قد تكون الأنسب لدفع بعض الشخصيات داخل النظام إلى القفز من السفينة قبل غرقها".
وأشار المصدر، إلى أن "واشنطن تعلم أن مادورو قد يحاول استخدام ورقة المهاجرين كورقة ضغط على دول الجوار، عبر تسهيل موجات نزوح مفتعلة، لكن الأجهزة الأمريكية تملك خططًا جاهزة لمواجهة ذلك، بما في ذلك إقامة ممرّات إنسانية بإشراف دولي يضمن عدم تحوّل الأزمة إلى فوضى إقليمية".
وتابع أن "الرسالة التي وجّهتها واشنطن، خلال الأسابيع الماضية، واضحة، وأي محاولة من النظام لاستخدام الفوضى كسلاح ستُواجَه بحزم محسوب، وأن الولايات المتحدة لن تسمح بتحوّل الكاريبي إلى ساحة فوضى مزمنة. فنزويلا، الآن، أمام لحظتها الحاسمة، والوقت لم يعد يعمل في صالح مادورو".
وختم المصدر بالقول، إن "المرحلة المقبلة ستكون حاسمة في تحديد مستقبل فنزويلا. واشنطن ليست في سباق مع الزمن، لكنها تتصرّف بثقة تامة بأن النظام فقد كل مقوّمات الاستمرار. كل ما يجري، الآن، ليس سوى إدارة محسوبة لعملية سقوط باتت مؤكّدة، لضمان أن يتم هذا السقوط بأقل كلفة ممكنة على الإقليم".
وما يقلق واشنطن ليس "قدرة فنزويلا على القتال"، وإنما احتمالات لجوء النظام إلى "إستراتيجية الأرض المحروقة"، أي تحويل المدن الكبرى إلى ساحات اضطراب أمني ومدني، واستخدام الميليشيات الموالية كأداة لنشر الفوضى.
ويبدو أن هذه الفرضية تشكّل محور النقاش داخل دوائر القرار الأمريكية حاليا، خاصة مع تصاعد القلق من أن يؤدي انهيار مفاجئ للنظام إلى موجة نزوح جديدة واضطرابات تمتد إلى كولومبيا والبرازيل.
في المقابل، يواصل مادورو سياسة الإنكار، متحدثًا عن "تعبئة وطنية" و"استعداد لمواجهة الغزو"، لكن ما يجري عمليًا هو تحويل البلاد إلى مسرح عمليات غير منضبطة، حيث تختلط ولاءات الأجهزة الأمنية بالمصالح الشخصية والمناطقية.
بدوره، رأى الخبير في الشؤون اللاتينية حسام راضي، أن ما يجري في فنزويلا، اليوم، يمثل تحوّلًا نوعيًا في بنية النظام، فبحسب رأيه، "المشكلة لم تعد في التهديد العسكري الأمريكي، بل في التآكل البنيوي داخل منظومة الحكم نفسها"، موضحًا أن "النظام الفنزويلي فقد تماسكه الداخلي منذ أن بدأ يربط استقراره بسيطرة الأجهزة الأمنية والميليشيات".
وأشار راضي في تصريح لـ"إرم نيوز"، إلى أن "إعلان الحكومة نيتها اعتماد تكتيكات المقاومة المطوّلة، يعكس حالة من الذعر أكثر منه استعدادًا للمواجهة".
وأضاف أن "حديث مادورو عن حرب عصابات ليس سوى اعتراف بعدم قدرته على خوض حرب نظامية، واعتراف ضمني بأن الجيش فقد قدرته على السيطرة الميدانية".
ويرى راضي، أن اللجوء إلى الفوضى كأداة دفاعية هو منطق أنظمة تدرك نهايتها، وتبحث عن طريقة لتأخير السقوط، وليس عن إستراتيجية للحفاظ على الدولة.
ومن وجهة نظره، "تميل واشنطن إلى قراءة هذا السلوك على أنه دليل ضعف لا مصدر خطر، ولذلك فهي لا ترى في فنزويلا خصمًا عسكريًا، بل نظامًا مترهلاً يهدد الاستقرار الإقليمي أكثر ما يهدد المصالح الأمريكية".
وأضاف راضي، أن "الولايات المتحدة تتعامل، الآن، مع الحالة الفنزويلية على قاعدة تفكيك منظومة الفساد الأمني والسياسي، وليس مواجهة جيش أو حكومة قائمة بذاتها".
واعتبر راضي، أن المشهد المقبل في كاراكاس سيشبه ما يسميه "الانهيار الهادئ"، أي تحلّل تدريجي في الأجهزة الأمنية، وظهور أجنحة داخل النظام تبحث عن ضمانات للنجاة.
ورأى أن "الولايات المتحدة تراقب هذه التحولات بدقة، وهي مستعدة للتعامل مع شخصيات من الصفين الثاني والثالث، شرط أن تُعلن استعدادها لقطع العلاقة مع مادورو".
وخلُص إلى اعتقاده أن "واشنطن لا تسعى إلى إسقاط الدولة الفنزويلية، بل إلى تحريرها من طبقة الحكم التي حولتها إلى مشروع أمني–ميليشياوي".
بدورها، رأت المحللة السياسية الأمريكية كارولين مايرز، أن الأزمة الفنزويلية دخلت مرحلة "إعادة التشكيل".
وقالت مايرز لـ"إرم نيوز"، إن "الولايات المتحدة تجاوزت منطق رد الفعل، وأصبحت تخطط لتوازن جديد في المنطقة، يمنع تكرار التجربة الفنزويلية في دول أخرى".
وأشارت إلى أن "دوائر صنع القرار في واشنطن تتعامل مع فنزويلا كملف أمني–اقتصادي متداخل".
وأوضحت مايرز، أن "الخطاب الأمريكي تجاه الملف الفنزويلي يخفي في جوهره هدفًا إستراتيجيًا، يتمثل في استعادة السيطرة على الحدود الجنوبية للأمن الأمريكي، وضمان عدم تحوّل الكاريبي إلى فراغ يسمح بتسلل النفوذ الروسي أو الإيراني".
وأضافت أن واشنطن لم تكتف بالعقوبات الاقتصادية التقليدية، بل إنها انتقلت وفق ما تسميه إلى "مرحلة الاستهداف الذكي"، أي ضرب نقاط ضعف النظام دون الإضرار بالبنية الاجتماعية.
واعتبرت مايرز، أن "الخطة تشمل تحييد شبكات التهريب التي تموّل النظام، واستهداف مراكز القيادة والسيطرة التي تُستخدم لتأمين الميليشيات الموالية"، مشيرة إلى أن هذا النهج يمكن أن يساهم في تفكيك النظام من الداخل دون خلق حرب مفتوحة.
ولفتت إلى أن النقاش داخل الإدارة الأمريكية يدور، اليوم، حول "المرحلة الانتقالية وليس حول التدخل".
وقالت: "هناك وعي متزايد في واشنطن بأن النظام سيسقط تحت ضغط الزمن والعزلة، ولذلك تُبنى الإستراتيجية على اليوم التالي. التركيز، الآن، على إعداد أرضية سياسية محلية قابلة للتعامل مع المجتمع الدولي فور رحيل مادورو".
وفي قراءتها للديناميات الداخلية في فنزويلا، تقول مايرز إن "الولايات المتحدة تراهن على عناصر داخل الدولة الفنزويلية نفسها لإعادة بناء السلطة بعد مادورو، سواء من الجيش أو من الجهاز المدني، لكنها ترفض التعامل مع أي شخصية ملوثة بالفساد أو متورطة بانتهاكات".
ورأت مايرز، أن "الولايات المتحدة لا تسعى إلى خلق مواجهة مباشرة، لكنها أيضًا لا تخشى التصعيد إذا تجاوز النظام الخطوط الحمراء. سياسة واشنطن، اليوم، قائمة على مبدأ الحسم الهادئ: تضييق مستمر، ومتابعة دقيقة، وترك النظام يسقط من وزنه الذاتي".
وتضيف، أن "ما بعد الفوضى لن يكون فراغًا، بل مشروع إعادة بناء مدعومًا أمريكيًا، يُعيد ترتيب المشهد اللاتيني على أسس أكثر استقرارًا وأقل عداءً لواشنطن".