بات الانقراض يهدد وجود الأوروبيين، وسط أرقام تؤكد أن معدلات الخصوبة أقل كثيرا من النسب الضرورية لاستقرار السكان التي تقدر بـ2.1 طفل لكل امرأة، في حين أنها لم تتجاوز وفقا لأفضل حالة 1.5 طفل لكل امرأة، مما ينذر بتضاعف شيخوخة "القارة العجوز".
المخاوف من الانقراض الأوروبي وضحت مع دق "ناقوس الخطر" من الحكومات بأصوات عالية للمواطنين بضرورة إنجاب المزيد من الأطفال، مع وضع خطط ودعم وحوافز متعددة مالية واجتماعية لإزالة المخاوف من الزواج والإنجاب.
وأكد خبراء في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن وجود أجيال قادمة تكتب الاستمرارية لدول أوروبا هي معادلة وضعت "القارة العجوز" بين روسيا التي تهدد وجودها عسكريا في ظل عدم امتلاك الأوروبيين العماد البشري لحماية بلدانهم، ومن جهة أخرى الولايات المتحدة التي تفرض شروطها كما جرى من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستغلال الأوروبيين، بدعوى حماية أمن القارة.
"هجرة الخصوبة"
وأوضح الخبراء أن التعامل مع هذه الأزمة تحاصرها انقسامات سياسية حادة في أوروبا في ظل وجود تنسيق لإتمام ما بات يعرف بـ"هجرة الخصوبة" عبر عمليات هجرة منظمة من الخارج، وهو ما يرفضه "اليمين المتطرف" الذي يرى في ذلك تهديدا للهوية التاريخية والثقافية والدينية للقارة العجوز.
وتعالت الأصوات الحكومية الأوروبية التي تطالب السكان بزيادة الإنجاب وسط وعود بتقديم الحوافز التشجيعية لذلك، والتي كان آخرها مطالبة وزيرة التعليم في الحكومة البريطانية، بريدجيت فيليبسون، البريطانيين بإنجاب المزيد من الأطفال بسبب التداعيات التي وصفتها بـ"المقلقة" بسبب انخفاض معدل المواليد، وقالت إن الكثير من الشباب يترددون في الإنجاب بسبب التكلفة المرتفعة للسكن ورعاية الأطفال، وأضافت أن خططها لرعاية الأطفال ستزيل هذه المخاوف عند الشباب البريطاني.
ودعا في وقت سابق، العديد من القادة الأوروبيين مواطنيهم إلى إنجاب أسر أكبر حجما للمساعدة في تنمية اقتصاداتهم ومواجهة ضغوط شيخوخة السكان، منهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي قدم فحوصات الخصوبة المجانية لمن تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاما لتشجيع الناس على إنجاب الأطفال في وقت أبكر، بينما حددت جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الإيطالية، هدفا يتمثل في 500 ألف ولادة سنويا.
أزمة غير مسبوقة
ويقول أستاذ التواصل السياسي في جامعة كادس إشبيلية الإسبانية، الخبير في الشؤون الأوروبية الدكتور محمد المودن، إن "القارة العجوز" تعاني من أزمة ديموغرافية غير مسبوقة، تتمثل بشكل واضح في تراجع معدلات المواليد وارتفاع متوسط عمر السكان في وقت وصل فيه معدل العمر في دول أوروبية إلى 80 سنة؛ ما يعني أن هناك نوعا من الرفاه سمح بأن تكون هناك أعمار طويلة للسكان لكن في المقابل يكون التحدي الخاص بالأزمة الديموغرافية.
وأوضح المودن في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن هذا التحدي دفع العديد من الحكومات الأوروبية إلى دق ناقوس الخطر بدعوة وزير التعليم البريطانية المواطنين لإنجاب المزيد من الأطفال، وحذرت من أن انخفاض الخصوبة يهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وهو التحذير نفسه الذي تردده دول أوروبية أخرى بشكل مباشر وغير مباشر حتى لا تكون هناك ردود فعل باستدعاء المهاجرين، وأن تصبح هذه البلدان هدفا للهجرة غير المنظمة.
وأضاف أن أغلب الدول الأوروبية تواجه معدلات خصوبة أقل كثيرا من المعدل الضروري لاستقرار السكان الذي يقدر بـ2.1 طفل لكل امرأة، مدللا على ذلك بعدم تجاوز معدل الخصوبة في إيطاليا 1.2 وفي ألمانيا 1.5 طفل لكل امرأة؛ ما ينذر بتقلص عدد السكان في العقود القادمة.
حلول بديلة
وأشار المودن إلى أنه في محاولة للتدارك تبنت حكومات أوروبية سياسات دعم تكوين الأسر عبر إجراءات تقليدية منها تقديم إعانات مالية، وتوسيع خدمات الحضانة، والمرونة في إجازات الأمومة، وغير ذلك، وأخرى جديدة كحوافز ضريبية كبيرة للأسرة وتقديم قروض من دون فوائد للمتزوجين لتسهيل سبل الحياة الأسرية.
ولكن تلك السياسات بحسب المودن لم تحقق اختراقا كافيا، ولذلك بدأت بعض الدول الاعتماد على الهجرة المنظمة لحل الأزمة الديموغرافية وظهر مصطلح "هجرة الخصوبة" الذي يعكس حاجة أوروبا لمهاجرين شباب قادرين على الإسهام في سوق العمل وتكوين أسر، حيث أن أوروبا تحتاج أسرة تتمتع بالخصوبة أكثر مما تحتاج لمهاجرين من ذوي العقول المهنية، حيث بات الرهان على "هجرة الخصوبة" أكثر من "هجرة الأدمغة".
وتابع أن هذه الأزمة تحاصرها انقسامات سياسية حادة في أوروبا، حيث تهاجم قوى اليمين المتطرف هذه الاتجاهات في ظل ما يرونه من أن "هجرة الخصوبة" تهدد الهوية التاريخية والثقافية والدينية للقارة.
خطر الانقراض
وذكر الباحث في الشؤون الأوروبية ناجي شمروني، أن وجود الأوروبيين مهدد، والانقراض خطر حاضر حاولوا الهروب منه والتغاضي عن انعكاساته وتأجيل التعامل معه، منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها دون اتخاذ إجراءات حقيقية أو وضع خطط مستقبلية لذلك.
وبين شمروني لـ"إرم نيوز"، أن الموازين كافة في القارة العجوز على مستوى الوجود المرتبط بالاستمرارية مهددة، ويحضر الانقراض لدول أوروبا عبر عدة أوجه، من ضمنها وجود كتل سكانية على حدودها تهددها، في ظل ما لها من وجود ديموغرافي داخل أوروبا.
وبحسب شمروني فإن أمن القارة أصبح مهددا وبات الملف الأخطر أمام الحكومات في لندن وباريس وروما وبرلين، لأنه عندما أرادت عواصم أوروبية التمهيد لإعادة تقوية جيوشها عبر نظم تجنيد جديدة بداخلها، منها ما يذهب إلى التجنيد الإجباري ومنها ما يحمل حوافز، لم يجدوا الشريحة والعدد القائم على النسبة والتناسب مع أعداد السكان داخل دولهم الأوروبية لإتمام أي شكل للتجنيد.
استراتيجيات جديدة
وتابع أن أوروبا في ظل الخطر الروسي الذي يهددها، عندما أرادت تكوين قوة ردع حقيقية، جهزت الإمكانيات كافة المادية والقدرات العسكرية، ولكن الأزمة في القوة البشرية التي هي الأساس في المواجهة؛ الأمر الذي جعل الحكومات الأوروبية تمضي في استراتيجيات جديدة لإنقاذ ديموغرافيا القارة العجوز، ومن الواضح أن مفعولها لن يكون مجديا، وفق تقديره.