دخلت الولايات المتحدة مرحلة جديدة في حربها الطويلة على فنزويلا، إذ أرسلت سفنًا حربية إلى منطقة البحر الكاريبي، في استعراض مكشوف للقوة، بعد استنفاد الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية.
ويأتي هذا التصعيد تتويجًا لسنوات من الاستهداف الأمريكي للحكومة البوليفارية في كاراكاس، بدءًا من العقوبات الشاملة في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وتشديدها في عهد الرئيس دونالد ترامب، واستمرارها ضمن الإجماع الحزبي، وفقًا لمجلة "ذا كريدل"
وتصوّر واشنطن هذه الخطوة رسمياً، على أنها جزء من حملة "مكافحة المخدرات" ضد ما تُسمى المنظمات الإرهابية، لكن التحليل الميداني يشير إلى أن الهدف الفعلي هو تغيير النظام والسيطرة الإقليمية، مختبئًا وراء خطاب مكافحة المخدرات.
بدأ الإطار القانوني للعملية الأمريكية بتوجيه رئاسي سري يمنح البنتاغون سلطة استهداف منظمات إرهابية أجنبية محددة.
وأكد مسؤول دفاعي أمريكي، لم يكشف عن هويته، أن السفن الحربية ترسل إلى المياه الفنزويلية للقضاء على تهريب المخدرات، مستهدفة الكارتلات التي تُلقى عليها مسؤولية تهريب الفنتانيل والمخدرات الأخرى، بما في ذلك ما يُعرف باسم "كارتل دي لوس سولس" أو "كارتل الشمس".
وفي يوليو، أكدت إدارة ترامب أن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو يقود هذا الكارتل بدعم من كبار المسؤولين الفنزويليين، مضاعفة وزارة العدل الأمريكية جهودها عبر عرض مكافأة قدرها 50 مليون دولار للإمساك بمادورو، في خطوة تجرد رئيس دولة من حصانته السيادية وتصنّفه إرهابيًا مرتبطًا بالمخدرات.
ويرى محللون مثل كريستوفر ساباتيني من تشاتام هاوس أن نشر السفن وتصنيف بعض السفن الفنزويلية كمنظمات إرهابية وزيادة المكافأة على مادورو، يمثل استراتيجية لإثارة ضجيج سياسي داخلي وخارجي، وخنق المعارضة، وضغط كبار المسؤولين على الانشقاق.
دحضت تحليلات خبراء، بما في ذلك مركز "إنسايت كرايم"، الادعاء القائل بأن فنزويلا تستضيف كارتل مخدرات تديره الدولة.
واعتبرت التقارير الأمريكية الأخيرة أن العقوبات على "كارتل الشمس" تصوّره بشكل خاطئ كمنظمة هرمية، بينما هو نظام قائم على الفساد، يشارك فيه مسؤولون عسكريون رفيعو المستوى.
وتؤكد تقارير دولية، مثل تقرير المخدرات العالمي 2025 للأمم المتحدة، أن طرق تهريب الكوكايين إلى أمريكا الشمالية تمر بشكل رئيسي عبر المحيط الهادئ وأمريكا الوسطى، وأن جزء البحر الكاريبي قرب فنزويلا يشكل نسبة ضئيلة إحصائيًا، مما يجعل استهداف فنزويلا غير متناسب مع حجم دورها الفعلي.
ويشير محللون سابقون في الاستخبارات الأمريكية إلى أن مصطلح "كارتل الشمس" نشأ بشكل غير رسمي لوصف شبكات فساد داخل الجيش الفنزويلي، وليس كهيكل مركزي يشبه عصابات المخدرات المكسيكية، ما يطرح تساؤلات حول المبررات الأمريكية.
ورغم ذلك، تشمل الترتيبات العسكرية الأمريكية مدمرات فئة أرلي بيرك مزودة بأنظمة إيجيس، وصواريخ توماهوك، ومجموعة هجومية برمائية "إيو جيما"، في خطوة تذكّر بحوادث تاريخية مثل خليج تونكين وغزو بنما.
ويهدف هذا الانتشار إلى بث حالة من التوتر والضغط النفسي داخل القوات المسلحة البوليفارية وتشجيع الانشقاقات، بينما تمنح المعارضة المحلية نفوذًا سياسيًا أكبر.
من جانبها، ترى واشنطن في القوة البحرية أداة لإعادة خلق تصدعات داخل القيادة العسكرية الفنزويلية، بينما حافظت كاراكاس على هيكل قيادي مدعوم بعقود من الحصار والتدريب الخارجي والتحالفات مع روسيا وإيران والصين.
وتمثل فنزويلا أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في العالم، ويظل تأمين الوصول إليها أو منع الآخرين من الوصول، محورًا رئيسيًا في الاستراتيجية الأمريكية.
رد الرئيس مادورو بتفعيل مبدأ "حرب كل الشعب"، الذي يستلزم حشد نحو خمسة ملايين مقاتل عبر الميليشيات البوليفارية لمواجهة أي غزو محتمل، وتحويله إلى حرب استنزاف طويلة ومكلفة.
دبلوماسيًا، نددت فنزويلا بالخطوة الأمريكية واعتبرتها انتهاكًا للقانون الدولي، وعززت تحالفاتها مع روسيا لتوفير الدعم العسكري، ومع الصين لتأمين التمويل والاستثمار، ومع إيران لإعادة تأهيل المصافي وتأمين إمدادات الوقود.
وأسهمت هذه التحالفات في منع تحول فنزويلا إلى دولة فاشلة، وحولت مواجهة محتملة إلى مواجهة متعددة الأقطاب، حيث أمنت روسيا العمق العسكري، والصين الدعم الاقتصادي، وإيران الدعم اللوجستي اليومي.
تتحدد خيارات المستقبل بثلاثة سيناريوهات، منها استمرار الولايات المتحدة في الضغط العسكري دون مواجهة مباشرة، مستخدمة وجودها البحري كورقة مساومة في مفاوضات دولية.
والسيناريو الثاني ممكن أن يكون ضربة أو حصارا بحريا قد يثير مقاومة شرسة من القوات والميليشيات الفنزويلية، ويزعزع استقرار أسواق الطاقة والدول المجاورة.
أما الثالث، فهو تقليل الوجود العسكري الأمريكي مع استمرار العقوبات الاقتصادية، بينما تصمد فنزويلا من خلال تحالفاتها وآلياتها الداخلية.
ويتضح أن تصعيد واشنطن، المعلّب تحت شعار مكافحة المخدرات، هو في جوهره حملة ضغط متعددة الأبعاد، تتجاوز بكثير مكافحة المخدرات، وتستهدف النفوذ والسيطرة الإقليمية، مع تركيز خاص على النفط، وتحقيق مصالح استراتيجية في النظام العالمي متعدد الأقطاب.
النتيجة لا تؤثر على مستقبل فنزويلا فحسب، بل قد تشكل نقطة تحول في توازن القوى العالمي في القرن الحادي والعشرين.