لم يكن التصريح الأخير الصادر عن الكرملين مجرد جملة دبلوماسية عابرة، بل حمل في طياته رسائل موجهة للغرب، عندما وصف موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن استبعاد انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي بـ"المُرضي".
وفي مشهد موازٍ، خرج المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، ليعزز نغمة الانفتاح، معلنًا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منفتح على إيجاد تسوية للأزمة الأوكرانية، وأن العمل مع الولايات المتحدة مستمر، وذلك تزامنًا مع تصريحات أطلقها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي بدا أكثر مرونة من ذي قبل.
وأثارت هذه التطورات المتسارعة تساؤلات كثيرة في الأوساط السياسية، حول ما إذا كانت قد اقتربت لحظة كسر الجمود، وبدأت الفجوة بين واشنطن وموسكو تضيق بعد عامين من الحرب الدامية.
وأكد خبراء أن موسكو ترفض منذ بداية الأزمة انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، وتعتبر تسليح كييف ووجود قوات أجنبية على حدودها تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، خاصةً أن التسوية مرهونة بقبول أوكرانيا بالوضع الراهن في شبه جزيرة القرم والمقاطعات الأربع.
ويرى الخبراء، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن العقبة الأساسية تكمن في رفض الدول الأوروبية لبقاء القوات الروسية بالمقاطعات الأربع، ما يطيل أمد النزاع ويمنع الوصول إلى وقف إطلاق نار حقيقي، لافتين إلى أن الولايات المتحدة باتت تدرك واقعية ضم القرم للسيادة الروسية.
وأشاروا إلى أن واشنطن تتبع سياسة "جس النبض" مع روسيا، وتدفع باتجاه تهدئة طويلة تسمح بتبادل وجهات النظر، وأن بوتين لا يبدو مرهقًا من الحرب، رغم استنزاف الطرفين، وقد يوافق على تسويات محدودة إذا ضمنت مكاسب سياسية واضحة لبلاده.
وبهذا الصدد، قال المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، د. سمير أيوب، إن موقف موسكو من النزاع مع أوكرانيا لم يشهد تغييرًا جوهريًا، وأن الكرملين وضع منذ البداية خطوطًا حمراء واضحة، على رأسها رفض انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، ومنع تحولها إلى دولة تشكل تهديدًا للأمن القومي الروسي، سواء عبر امتلاك أسلحة متطورة أم بتحويلها إلى بؤرة لزعزعة الاستقرار داخل روسيا.
وأوضح أيوب، لـ"إرم نيوز"، أن الجديد في المشهد قد يتمثل في استعداد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لقبول بعض المقترحات الأمريكية، وأبرزها التخلي عن فكرة الانضمام للناتو، معتبرًا هذه الخطوة - حال حدوثها - مؤشرًا إيجابيًا في اتجاه الحل.
وشدد على أن جوهر النزاع ما زال يتمحور حول قضية شبه جزيرة القرم والمقاطعات الأربع التي أعلنت روسيا ضمها رسميًا.
وأشار أيوب إلى أن السؤال الأساسي الذي يعرقل المفاوضات هو ما إذا كانت أوكرانيا ستقبل الاعتراف بالسيادة الروسية على تلك المناطق، أو على الأقل ستعترف بوجود "ظرف استثنائي" فرض ذلك الواقع الميداني.
وتابع أيوب: "الولايات المتحدة تبدو مقتنعة بأن شبه جزيرة القرم أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الأراضي الروسية، وأن الاعتراف بذلك قد يكون مسألة وقت، حتى لو لم يُعلن بشكل رسمي حتى الآن".
وأضاف أن تسوية وضع المقاطعات الأربع الأخرى لا تزال محل تفاوض، لكن تبقى العقبة الأبرز في الموقف الأوروبي، الذي يصر على رفض أي صيغة تسمح ببقاء القوات الروسية في تلك المناطق.
ولفت أيوب إلى أن الدول الأوروبية، تحديدًا، تعرقل الوصول إلى اتفاق نهائي لوقف إطلاق النار، بينما تصر روسيا على تثبيت مكاسبها الميدانية باعتبارها أحد شروط التسوية.
وتساءل عن مدى جدية الموقف الأمريكي، مؤكدًا أن نجاح أي اتفاق لوقف إطلاق النار يتطلب توازنًا واضحًا، بحيث يتزامن مع وقف الدعم العسكري والاستخباراتي المقدم لأوكرانيا، بما في ذلك الدعم عبر الذكاء الاصطناعي والأقمار الصناعية.
واعتبر أيوب أن أي التزام أمريكي حقيقي بوقف الدعم العسكري قد يضغط على نظام كييف للقبول بتسوية، وقد يُجبر الدول الأوروبية أيضًا على التعامل بواقعية مع مطالب روسيا، إلا أن استمرار تدفق الأسلحة سيُبقي الحرب مشتعلة لفترة طويلة، وسيُغلق الطريق أمام أي مبادرات سلام جادة.
من جانبه، قال المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، د. نبيل رشوان، إن الإدارة الأمريكية تنتهج أسلوب "جس النبض" في تعاملها مع الأزمة، وتسعى لاختبار استعداد روسيا وأوكرانيا لقبول بعض التنازلات، وعلى رأسها مسألة الاعتراف بسيادة روسيا على القرم، ورفض فكرة انضمام كييف إلى الناتو.
وأشار رشوان، لـ"إرم نيوز"، إلى احتمال أن تتحول محطة زابوروجيا النووية إلى منطقة محايدة، وسيتم وضعها تحت إشراف طرف ثالث، وربما تتولى واشنطن إدارتها بشكل غير مباشر ضمن تفاهمات الحل النهائي.
وأضاف أن خبرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السياسية لا تعكس أي إشارات على الإرهاق أو الاستنزاف الشخصي بسبب الحرب، رغم أن كلا الطرفين - روسيا وأوكرانيا - تعرضتا بالفعل لخسائر مادية وبشرية كبيرة، ما قد يدفعهما للبحث عن تسوية تُنهي الحرب التي دخلت عامها الرابع.
ورأى رشوان أن موسكو تسعى حاليًا لترسيخ سيادتها على القرم والمقاطعات الأربع، لكنها قد تكون منفتحة على تقديم تنازلات محدودة إذا توافرت شروط مناسبة تضمن مصالحها الاستراتيجية، لكن لا مؤشرات قوية حتى الآن على قرب حدوث ذلك.
وأوضح أن ما تسعى إليه واشنطن حاليًا هو فرض وقف لإطلاق النار طويل الأمد، يفتح المجال أمام مفاوضات جادة يمكن خلالها للطرفين عرض رؤاهما ومحاولة التوصل إلى صيغة لتقاسم النفوذ أو التنازلات.
وأشار رشوان إلى أن مسألة انضمام أوكرانيا للناتو تظل واحدة من أهم العُقد في الأزمة، خاصة أن الحلف كان قد وعد في عام 1994 بعدم التوسع شرقًا، لكنه خالف ذلك لاحقًا بضم بولندا ودول أخرى، ما أثار مخاوف موسكو الأمنية.
وحذر من أن أوكرانيا قد تعلن اليوم عن تخليها عن فكرة الانضمام للناتو، لكن هذه المواقف قد تتغير مستقبلًا بتغير القيادات والسياسات، وهو ما يجعل موسكو تتمسك بضمانات مكتوبة تلتزم بها الدول الغربية قبل الحديث عن أي تسوية.
وختم رشوان تصريحاته بالإشارة إلى أن ملف الأراضي يمثل العقبة الأبرز أمام أي اتفاق نهائي، موضحًا أن أوكرانيا ترفض حتى الآن الاعتراف بسيادة روسيا على القرم، كما أن الغالبية العظمى من دول العالم، بما فيها الصين الحليف الأبرز لموسكو، لم تعترف رسميًا بضم شبه الجزيرة.