في الحرب الروسية الأوكرانية، لم تُطلق الصواريخ الغربية هذه المرة من فوهة مدفع، بل من داخل خزائن البنوك الأوروبية، خاصة مع خطوة ألمانية جديدة تنذر بتحول جذري في أسلوب الصراع مع موسكو، فقد دعت برلين إلى النظر بجدية في مصادرة الأصول الروسية المجمدة واستخدامها لدعم أوكرانيا، ليس فقط إنسانيًا، بل عسكريًا أيضًا.
تورستن فراي، رئيس ديوان المستشارية في ألمانيا، فتح الباب على مصراعيه أمام هذا التوجه في تصريحه الأخير، معتبرا أن كل إحساس بالعدل يقتضي استخدام تلك الأموال، خصوصًا مع تصاعد القصف الروسي الذي وصفه بأنه "الأعنف منذ بداية الحرب".
واكتفى الأوروبيون باستخدام فوائد هذه الأصول لتمويل شحنات السلاح والذخائر، ولكن طرح فكرة المصادرة المباشرة يمثل نقلة نوعية، رغم ما يواجهه من اعتراضات قانونية وتشكيك واسع داخل دوائر الاتحاد الأوروبي.
وفي ظل هذه التطورات، تبرز المخاوف بشأن مكانة العملات الاحتياطية الغربية، وعلى رأسها اليورو والدولار، في حال مضت أوروبا في هذا المسار.
ويرى مراقبون أن أي مساس بالأصول الروسية من دون غطاء قانوني دولي قد يدفع بعض الدول إلى تقليل اعتمادها على النظام المالي الغربي، والبحث عن بدائل أكثر حيادًا، ما قد يؤدي إلى تآكل الثقة في بنية الاقتصاد الدولي نفسها.
ومع هذا القرار الألماني والمخاوف الغربية، يبقى التساؤل الأبرز: هل نشهد انطلاق أولى جولات "حرب الأرصدة" بين روسيا والغرب؟
وحذّر الخبراء في الشؤون الروسية من التداعيات القانونية والسياسية الخطيرة لتوجه ألمانيا والغرب نحو استخدام الأصول الروسية المجمدة في تمويل إعادة إعمار أوكرانيا.
ونبه الخبراء، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، إلى أن تجاوز القواعد الدولية الخاصة بحصانة ممتلكات الدول قد يُنظر إليه كعمل انتقامي، خصوصًا من قِبل دول الجنوب.
واعتبروا أن القرار يعكس تصعيدًا خطيرًا قد يؤثر في النظام المالي العالمي، ويقوض الثقة في العملات الغربية كأدوات احتياطية، خاصة أن مصادرة هذه الأموال قد تؤدي إلى رد روسي قوي، في ظل اعتماد الأوروبيين حتى الآن فقط على عوائد الفوائد من دون المساس بالأصول الأساسية.
تحوّل أوروبي
يقول ديميتري بريجع، مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، إن توجه ألمانيا نحو استخدام الأصول الروسية المجمّدة لتمويل إعادة إعمار أوكرانيا يعكس تحولًا استراتيجيًا في المزاج الأوروبي.
وأكد، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن هذا التوجه يجمع بين رغبة الغرب في محاسبة موسكو على أفعالها في أوكرانيا، وبين الضغوط الداخلية المتزايدة لتقديم دعم ملموس لكييف من دون تحميل موازنات الدول الأوروبية أعباء إضافية.
وشدد بريجع على أن هذا المسار، رغم ما يحظى به من دعم أخلاقي وسياسي في الخطاب الغربي، يصطدم بعقبات قانونية كبيرة قد تقوض شرعيته، وتفتح الباب أمام تداعيات مالية وقانونية معقدة على المدى البعيد.
حصانة الأصول
وأضاف بريجع أن القواعد الدولية المتعلقة بحصانة ممتلكات الدول لا تزال تشكل حاجزًا قانونيًا أمام مصادرة الأصول الروسية المجمدة، خاصة أن القانون الدولي ينص، بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة بشأن حصانات الدول وممتلكاتها، على أن الأصول السيادية للدول لا يجوز مصادرتها أو التصرف فيها، حتى في حالات النزاع، إلا ضمن شروط نادرة ومحكمة.
ولفت إلى غياب قرار صريح من مجلس الأمن يُضفي شرعية قانونية على هذه الخطوة، ويجعل الأمر أكثر جدلية، لا سيما في ظل التعارض الحاد في المواقف بين موسكو والغرب داخل الساحة الأممية.
وأشار بريجع إلى أن محاولات تبرير هذه الخطوة تحت ذريعة التدابير المضادة" وفق القانون الدولي قد لا تكون كافية؛ لأن مبدأ التناسب وعدم الإضرار بالطرف الآخر بشكل غير قانوني يبقى شرطًا أساسيًا لمشروعية أي رد فعل.
وتابع: "بالتالي، فإن المضي في مصادرة هذه الأصول قد يُنظر إليه على أنه نوع من الانتقام المالي، لا كآلية قانونية عادلة، خاصة من قِبل دول الجنوب العالمي أو الدول المحايدة التي تتابع الموقف من زاوية احترام سيادة الدول وحصانة ممتلكاتها".
رسائل مزدوجة
أما من الناحية السياسية، فرأى بريجع أن الخطوة الألمانية تحمل رسائل مزدوجة، فهي من جهة تمثل محاولة لتأكيد التزام برلين تجاه كييف كحليف مركزي في مواجهة روسيا، ومن جهة أخرى تعد اختبارا لمدى تماسك الاتحاد الأوروبي وحلفائه في اتخاذ قرارات قد تتحدى الأعراف المستقرة في النظام الدولي.
وحذر من أن هذه الرسائل قد تنعكس سلبًا إذا ما استغلتها موسكو لتعزيز خطابها بشأن "نهب الغرب لأموالها"، ما قد يغذي النزعات الشعبوية داخل روسيا، ويكرّس سرديات الصراع الحضاري بين الشرق والغرب.
وأشار ديميتري بريجع إلى أن العائدات الناتجة عن الفوائد المتراكمة على الأصول المجمدة قد تمثل حلاً وسطًا أكثر قبولًا، إذ تمكن الدول الغربية من دعم أوكرانيا من دون تجاوز الخطوط القانونية الحمراء، غير أن هذا السيناريو أيضًا لا يخلو من التعقيدات، لأن تخصيص عوائد أموال مملوكة لدولة ما لصالح دولة ثالثة من دون موافقة صريحة من المالك الأصلي يظل موضع خلاف قانوني، سواء في إطار القانون الدولي العام أو الخاص.
تعقيد قانوني
من جانبه، قال بسام البني، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، إن القرار الألماني الأخير يشير إلى تحول مهم في الموقف الأوروبي، وقد يمهد الطريق لخطوات أكثر جرأة في المستقبل، خاصة مع استمرار الحرب، ولكن الأسئلة القانونية تبقى معلقة، مما يجعل من هذه القضية أحد أكثر الملفات تعقيدًا في المشهد الجيوسياسي الحالي.
وأشار البني، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، إلى أن هناك مخاوف قانونية واقتصادية من تقويض النظام المالي العالمي وانتهاك القانون الدولي، إضافة إلى تأثير ذلك في مكانة العملات الاحتياطية، وردود الفعل الروسية المحتملة.
واعتبر أن هذه الخطوة ستكون بمثابة "سرقة" وقد تدفع الدول التي تحتفظ باحتياطاتها النقدية إلى الابتعاد عن اليورو والدولار، مما يؤثر في مكانتهما كعملتين احتياطيتين في الاقتصاد العالمي، وفق قوله.
وقال البني إن استخدام الأصول كأداة سياسية قد يؤدي إلى تآكل ثقة المستثمرين في الدول الغربية، ويزعزع استقرار النظام المالي الدولي، ولا يمكن للغرب استخدام الأموال الروسية المجمدة؛ لأن هناك قوانين دولية تمنع ذلك، وإذا تم تجاوز هذه القوانين، فإن الأمر سيؤثر بشكل كبير في الاستقرار المالي العالمي".
توازن هش
وتابع البني: "يبدو أن أوروبا فقدت توازنها بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من دعم أوكرانيا، فكيف سيتم تزويد الأوكرانيين بالسلاح والأموال إذا لم تشارك أمريكا؟ ولهذا السبب يجري التلويح بفكرة مصادرة الأموال الروسية، التي تبلغ نحو 210 مليارات دولار في الاتحاد الأوروبي وحده".
وأوضح البني، في ختام تصريحاته، قائلا: "يجب ألا ننسى أن الأوروبيين، حتى الآن، يزودون أوكرانيا من فوائد هذه الأموال، ومن صفقات السلاح التي تغطى بعائدات الفوائد، ولكنهم لم يجرؤوا حتى الآن على مصادرة الأصول الأساسية، أما إذا تمت مصادرتها فعلا فأعتقد أنه سيكون هناك رد روسي حاسم على هذا الأمر".