أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تفويض وكالة الاستخبارات المركزية بتنفيذ عمليات سرّية داخل الأراضي الفنزويلية، ما يمثل تصعيدًا أمنيًا لافتًا في العلاقات المتوترة بين البليدن.
القرار، الذي جاء مرفقًا بتبريرات تتصل بمكافحة تجارة المخدرات وضبط تدفّقات الهجرة غير النظامية، يأتي كإجراء أمني موضعي، إلا أن التوقيت وحدّة التصريحات المرافقة، وما تضمّنته من إشارات إلى احتمال تنفيذ ضربات برّية "محدودة"، أعادت إلى السطح أسئلة عميقة حول حدود الدور الأمريكي في الإقليم، ومعنى العودة التدريجية لاستخدام أدوات ميدانية في التعامل مع ملفات أمنية كانت حتى وقت قريب تُدار بالضغط الاقتصادي والعقوبات السياسية.
ويتجاوز القرار، من حيث أثره اللحظة الإجرائية المباشرة، إذ يستحضر في خلفيته نمطًا من السياسات التدخلية التي ميّزت العلاقة بين واشنطن وبلدان الجوار الجنوبي طيلة القرن العشرين، ومع أن المفردات المستخدمة في الخطاب الرسمي الأمريكي تتفادى الإيحاء بنيّة تغيير النظام، إلا أن توسعة الصلاحيات الاستخباراتية خارج الأطر التقليدية تفتح الباب أمام إعادة تعريف "الردع الأمني".
وقال مصدر دبلوماسي أمريكي سابق، إنه "داخل دوائر القرار في واشنطن، لا يُنظر إلى التحرك الأخير تجاه فنزويلا على أنه عودة إلى مرحلة التدخلات التقليدية، إنما كجزء من استراتيجية أمنية تُعرف في أروقة وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات باسم إعادة بناء الردع الإقليمي".
هذه المقاربة، وفق المصدر الذي عمل في بعثة واشنطن في أمريكا الجنوبية واطّلع على مشاورات داخلية بشأن الملف الفنزويلي، تقوم على توسيع مساحة العمل الاستخباراتي في البيئات التي تُعد غير مستقرة بالنسبة لواشنطن، بهدف رصد الشبكات التي تمسّ بالمصالح الأمريكية المباشرة مثل تهريب المخدرات وتجارة البشر والهجرة غير النظامية.
وأضاف المصدر لـ"إرم نيوز": "لا يتحدث صانعو القرار اليوم عن تغيير نظام أو إسقاط حكومة، بل عن ضبط بيئة أمنية باتت متشابكة مع مصالح قوى دولية أخرى مثل روسيا والصين، ففنزويلا تُعدّ نقطة التقاء لهذه المصالح، لذلك يُنظر إلى التحرك الأمريكي باعتباره جهدًا وقائيًا لمنع تشكّل محور نفوذ غير صديق في الجوار الجنوبي".
في المقابل، هناك حرص واضح على تجنّب المواجهة المباشرة أو أي فعل يمكن أن يُفسّر كتدخّل عسكري، ولهذا السبب تم تفويض وكالة الاستخبارات وليس وزارة الدفاع، بحسب المصدر، لأن العمليات الاستخباراتية تُدار ضمن هامش سياسي أضيق، وغالبًا ما تكون ذات طابع محدود ومؤقت.
وأضاف: "ما يجري هو محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين الأمن والسيادة في الإقليم، من خلال أدوات أقل علنية وأكثر تقنية، تعتمد على المراقبة والرصد، الهدف هو منع توسّع التهديدات العابرة للحدود التي لم تعد تميّز بين الجريمة المنظمة والسياسة، أو بين التهريب والهجرة".
وختم بالقول: "من هذا المنظور، ترى واشنطن أن ما تفعله في فنزويلا هو تصحيح لمسار طال إهماله لسنوات، وأنّ ضبط الحدود الجنوبية يبدأ من معالجة مصادر الخطر قبل أن تصل إلى الأراضي الأمريكية".
القرار الأمريكي بتفويض وكالة الاستخبارات المركزية تنفيذ عمليات سرية داخل فنزويلا يفتح مرحلة جديدة في العلاقة بين واشنطن وكاراكاس، تتجاوز الخطاب السياسي إلى الفعل الأمني المباشر.
وبينما تقول الإدارة الأمريكية، إن الهدف هو مكافحة تجارة المخدرات وضبط الهجرة غير الشرعية، يرى مراقبون أن الخطوة تعيد إحياء ملامح "مبدأ مونرو" في ثوب أمني جديد.
والسؤال المطروح اليوم يتمحور حول ما إذا كنا أمام تحول في العقيدة الأمريكية تجاه أمريكا اللاتينية، أم أنه إجراء رمزي محسوب يهدف إلى إعادة تأكيد الهيبة الأمريكية في فضاء تعتبره واشنطن حيويًا لأمنها القومي.
ومنذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة مجددًا، بدا أن إدارته تميل إلى توظيف الأدوات الصلبة في السياسة الخارجية، خصوصًا في ما تعتبره مناطق نفوذ تقليدية للولايات المتحدة.
وكانت فنزويلا تاريخيًا ساحة اختبار لمدى قدرة واشنطن على ضبط الإيقاع السياسي في محيطها الجنوبي، لكن التفويض الأخير لوكالة الاستخبارات يعكس قناعة بأن العقوبات الاقتصادية وحدها لم تعد كافية.
في المقابل، يجد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو نفسه أمام تحدّ الحفاظ على السيادة من جهة، وتجنّب الانزلاق نحو مواجهة مباشرة مع واشنطن من جهة أخرى.
وجاءت الردود الرسمية الفنزويلية حادة، لكن مع وعي بأن أي تصعيد عسكري قد يفاقم الأزمة الاقتصادية والعزلة الدولية التي تعيشها البلاد.
وتستند واشنطن في تبريرها إلى ملفين رئيسين: الأول مكافحة تهريب المخدرات عبر الكاريبي، والثاني وقف موجات الهجرة التي تمر عبر الحدود الجنوبية.
لكن توقيت القرار يثير تساؤلات حول أهدافه الأعمق، خاصة أنه يتزامن مع منح جائزة نوبل للسلام لزعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، ما يمنح المعارضة زخمًا سياسيًا ودعمًا معنوياً قد يُستثمر لإعادة ترتيب البيت الداخلي المناهض لمادورو.
كما أن الحديث عن "عمليات محدودة" قد يشكّل اختبارًا مبكرًا لإمكانية استخدام أدوات التدخل غير المباشر في دول أخرى بالمنطقة مثل نيكاراغوا أو كوبا.
وفي الداخل الفنزويلي، لا يزال النظام متماسكًا بفضل سيطرته على المؤسسة العسكرية والأمنية، لكن الشارع يعاني من أزمات اقتصادية خانقة وانقسام سياسي حاد.
والمشروع الدستوري الجديد الذي تطرحه الحكومة يعمّق الشكوك حول نواياها الإصلاحية، بينما تحاول المعارضة تحويل الجائزة الدولية إلى رصيد سياسي داخلي، ولو بوسائل رمزية أكثر منها عملية.
لذا فإن أي تحرك أمريكي مباشر داخل فنزويلا قد يعيد خلط الأوراق في القارة، فالدول الحليفة لمادورو مثل كوبا وبوليفيا ونيكاراغوا ستعتبر ذلك مساسًا بمبدأ السيادة، بينما قد ترى البرازيل وكولومبيا في الخطوة إشارة إلى عودة واشنطن كضامن للأمن الإقليمي.
وفقًا لما أكّده خبير أممي يعمل ضمن بعثة إقليمية تابعة لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) في أمريكا اللاتينية، فإن التحرك الأمريكي الأخير باتجاه فنزويلا يُنظر إليه كامتداد لنمط من الإجراءات غير المُعلنة التي بدأت تظهر في المنطقة منذ أكثر من عامين، خصوصًا في النقاط ذات الهشاشة الحدودية العالية.
ويضيف المصدر لـ"إرم نيوز"، أن "ما جرى حتى الآن لا يتجاوز، في مضمونه، ما يمكن اعتباره نشاطًا استخباراتيًا وقائيًا في بيئة تُظهر مؤشرات متزايدة على تَشابُك ملفيّ التهريب والهجرة مع نشاطات أخرى عابرة للسيادة، مشيرًا إلى أن بعض المناطق الساحلية في شمال فنزويلا تُسجَّل فيها تحركات غير منتظمة منذ أشهر، دون أن تُوجَّه أصابع الاتهام مباشرة إلى أطراف حكومية أو أجهزة بعينها".
ويتابع: "في البيئات الدولية التي ترصد الظواهر العابرة للحدود، هناك إدراك بأن حالات الفشل المؤسسي في ضبط الإقليم لا ينبغي أن تُواجَه بتدخلات مركزية أو عقابية، لكن في الوقت ذاته، فإن الفراغات الأمنية لا يمكن تجاهلها، لا من قبل الدول المجاورة، ولا من قبل الشركاء الدوليين المعنيين بمكافحة الجريمة المنظمة".
بدوره، أشار الباحث الأمريكي المتخصص في الأمن الإقليمي ريتشارد ميلر، إلى أن تفويض الرئيس الأمريكي لوكالة الاستخبارات المركزية بتنفيذ عمليات سرّية في فنزويلا يمثل في جوهره تكييفًا أمنيًا مع واقع متغير في أمريكا اللاتينية أكثر من كونه تصعيدًا عسكريًا أو تحركًا أيديولوجيًا.
وقال ميلر لـ"إرم نيوز"، إن "واشنطن تواجه تحديات مباشرة تتجاوز الحدود التقليدية، أبرزها شبكات تهريب المخدرات التي تستفيد من ضعف الرقابة الساحلية في بعض مناطق الكاريبي، والمسارات الجديدة للهجرة غير النظامية التي تمر عبر فنزويلا وكولومبيا قبل أن تتجه شمالًا.
ويرى أن هذا النوع من التفويض الاستخباراتي يعيد استخدام أدوات قائمة في إطار "الردع الوقائي"، فالتصريحات الأمريكية حول "إمكانية تنفيذ ضربات محدودة" لا تُقرأ كنية للحرب، وإنما كجزء من إشارة ردع تستهدف شبكات محددة وليس النظام السياسي الفنزويلي ككل.
ومن وجهة نظره، يعكس القرار أيضًا إعادة ضبط الأولويات الأمريكية في القارة الجنوبية بعد توسّع الحضور الصيني والروسي في فنزويلا وبوليفيا ونيكاراغوا، إذ تسعى واشنطن إلى منع تحوّل هذا المحيط إلى منطقة نفوذ مضادة لمصالحها الاستراتيجية.
ويضيف أن الولايات المتحدة "لم تعد تنظر إلى أمريكا اللاتينية بوصفها حديقة خلفية، إنما كجوار أمني مفتوح، يمكن لأي خلل فيه أن ينعكس مباشرة على الداخل الأمريكي، سواء عبر تجارة غير مشروعة أم موجات لجوء غير منظمة".
ويختتم ميلر تحليله بالقول، إن "التحرك الأمريكي يهدف إلى بناء بيئة ردع استخبارية من دون التورط في نزاع مفتوح، في وقت تسعى فيه واشنطن إلى تقليص الأحلاف السياسية والعسكرية لتدخلاتها الخارجية، مع التركيز على حماية أمنها الداخلي عبر الحدود".
بدوره، رأى الخبير في العلاقات الدولية بجامعة ساو باولو البرازيلية مارسيلو أندرادي، أن "تفويض وكالة الاستخبارات الأمريكية في فنزويلا يُعيد فتح النقاش حول حدود الدور الخارجي في قضايا الأمن الإقليمي، ويختبر قدرة أمريكا اللاتينية على التعامل مع مقاربات أحادية الجانب في معالجة ملفات ذات طابع مشترك".
وقال أندرادي لـ"إرم نيوز"، إن "القرار الأمريكي يشكل تحولًا في أدوات النفوذ أكثر منه في المبدأ السياسي؛ إذ لم تعد واشنطن تعتمد القنوات الدبلوماسية التقليدية أو برامج الشراكة الأمنية المتعددة الأطراف بقدر ما تميل إلى التنسيق الاستخباراتي الذي يصعب تتبّع نتائجه أو تقييم مدى توافقه مع القانون الدولي".
وأشار إلى أن "قضية التهريب والهجرة غير النظامية حقيقية، وتُعدّ من أبرز التحديات التي تواجه دول المنطقة، لكنّ معالجتها تتطلب تنسيقًا مؤسساتيًا طويل المدى يوازن بين مكافحة الجريمة المنظمة واحترام السيادة الوطنية".
وأضاف أن "أي نشاط أمني منفرد داخل أراضي دولة أخرى، حتى لو كان محدودًا، يثير تساؤلات قانونية وسياسية، ويهدد بإضعاف الأطر الإقليمية مثل مجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي (CELAC) أو منظمة الدول الأمريكية (OAS)".
واعتبر أندرادي، أن "التركيز الأمريكي على فنزويلا يعكس أيضًا اختلالًا في توزيع الجهود الأمنية داخل القارة، حيث تُهمل ملفات مشابهة في دول أخرى تشهد أنشطة تهريب وهجرة مماثلة".
وختم بالقول، إن "ضبط التهريب والهجرة يجب أن يظل أولوية مشتركة، لكنّ تحقيقه يستدعي شراكة جماعية شفافة بدلًا من التحركات المنفردة التي قد تزيد هشاشة العلاقات الإقليمية وتفاقم انعدام الثقة المتبادل".