في مشهد يعكس عمق الانقسام في المجتمع البولندي، شهدت العاصمة وارسو، الأحد، مظاهرتين متزامنتين تمثلان رؤيتين متعارضتين تمامًا لمستقبل البلاد: واحدة تؤمن بأوروبا والتعددية، والأخرى تتمسك بالهوية القومية وتستنفر ضد "التأثيرات الغربية".
ويرى فرانسوا ميران، الباحث في مركز الدراسات الأوروبية بباريس والمتخصص في الحركات القومية والشعبوية، لـ"إرم نيوز"، أن "الانقسام في بولندا لم يعد فقط صراعًا بين اليمين واليسار أو بين بروكسل ووارسو، بل بات صراعًا بين جيلين ورؤيتين متناقضتين للهوية البولندية".
وأضاف ميران أن " كارول نافروتسكي يستثمر في خطاب الخوف من فقدان السيادة، ومن 'الاستعمار الثقافي الأوروبي، كما يسميه، في حين أن تشاسكوفسكي يمثل الطبقة الوسطى الحضرية، الطامحة للاندماج في المشروع الأوروبي بشكل كامل".
كما اعتبر أن هذا الانقسام لا يُضعف فقط المشهد السياسي البولندي، بل يهدد أيضًا بتقويض التماسك الداخلي للاتحاد الأوروبي، خاصة في وقت تتصاعد فيه النزعات اليمينية داخل عدد من دوله الأعضاء".
وحذّر من نتائج هذه الانتخابات، قائلاً إن "الجولة الثانية ليست مجرد اقتراع رئاسي، بل هي اختبار لوجهة بولندا الجيوسياسية في السنوات المقبلة، وما إذا كانت ستظل حليفة وثيقة للاتحاد الأوروبي، أم ستنضم تدريجيًا إلى معسكر اليمين القومي الأوروبي المتصاعد".
وقبل أيام فقط من الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية الحاسمة، تحتدم المنافسة بين الليبرالي المدعوم من بروكسل، رافال تشاسكوفسكي، والمرشح القومي كارول نافروتسكي، في ما يشبه معركة رمزية بين نسختين من بولندا متقابلتين: أوروبا مقابل التقاليد، الانفتاح مقابل الانغلاق.
وذكرت صحيفة "لوموند" الفرنسية أنه "في الأحد الأخير قبل الجولة الثانية من الانتخابات المقررة في الأول من يونيو/حزيران" الجاري، نظم المرشحان النهائيان، رئيس بلدية وارسو الليبرالي رافال تشاسكوفسكي، والمؤرخ القومي كارول نافروتسكي، مظاهرتين حاشدتين في قلب العاصمة البولندية؛ بهدف تعبئة الناخبين في خط النهاية لهذه المواجهة المصيرية.
ورسم مشهد المظاهرتين المتزامنتين، في اتجاهين متعاكسين في شوارع وارسو، صورة رمزية لبولندا متقابلة، كما لو أن البلاد تنظر في مرآة منقسمة.
فمن جهة، سار جمع متنوع يحمل أعلام بولندا، والاتحاد الأوروبي، وقوس قزح، ما يعكس دعوة إلى بولندا منفتحة، تعددية، وأوروبية بامتياز.
ومن الجهة الأخرى، تجمّع موحد في ألوان الأحمر والأبيض، يستعيد خطابًا قوميًا يعتبر الطرف الآخر "خائنًا" يتآمر لبيع الوطن للمصالح الأجنبية، واستيراد "أيديولوجيات" تقدمية من الغرب.
وتساءلت الصحيفة الفرنسية:" هل يبدو المشهد مألوفًا؟ وقالت:" إنه امتداد لصراع دام عقدين بين نسختين من بولندا: بولندا الليبرالية لدونالد توسك، رئيس الوزراء الحالي والسابق، وبولندا المحافظة بقيادة ياروسواف كاتشينسكي، الذي قاد حزب "القانون والعدالة" بقبضة حديدية بين 2015 و2023.
لكن نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، التي جرت في 18 مايو/أيار، أوضحت أن هذا الانقسام السياسي التقليدي بدأ يتراجع؛ إذ لم يسبق أن حصل مرشحو المعسكرين الرئيسين على نسبة مجمعة منخفضة كما حصلوا هذه المرة: 60% فقط، مقابل نحو 80% في انتخابات 2010، و74% في 2020.