في مشهد يذكّر بحقبة الحرب الباردة، تحولت غرينلاند، أكبر جزيرة في العالم، إلى ساحة تنافس جيوسياسي محموم بين القوى العظمى.
منذ إعادة انتخابه، أصبح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهووساً بفكرة السيطرة على هذه الجزيرة المغطاة بالجليد، لدرجة تعيين حاكم لويزيانا جيف لاندري "مبعوثاً خاصاً لغرينلاند"، مما أثار توترات جديدة مع الدنمارك، التي تتبع لها الجزيرة.
يشرح ألكسندر تيث، الباحث في مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية ومنسق مرصد القطب الشمالي، السبب الرئيسي لاهتمام ترامب بغرينلاند بالقول: "غرينلاند هي نوع من القاعدة المتقدمة لاكتشاف إطلاق الصواريخ أو أجسام مختلفة من روسيا، أو حتى الصين، التي تستهدف القارة الأمريكية وتعبر القطب الشمالي".
ويشير إلى أن غرينلاند تقع إلى جانب آيسلندا والمملكة المتحدة، على محور حاسم، ما يسمى بفجوة GIUK، التي تتحكم في الوصول البحري إلى شمال المحيط الأطلسي. وهذا الممر البحري يشكل نقطة اختناق استراتيجية حيوية لمراقبة الغواصات الروسية.
وتستضيف الجزيرة قاعدة بيتوفيك الفضائية (قاعدة ثول الجوية سابقاً)، التي تلعب دوراً حاسماً في اكتشاف التهديدات الصاروخية.
وتقول ريبيكا بينكوس، مديرة معهد القطب الشمالي في مركز ويلسون والمستشارة السابقة لوزارة الدفاع الأمريكية، إن غرينلاند مهمة من منظور الدفاع الصاروخي، ومن منظور الفضاء، ومن منظور المنافسة العالمية.
وعن ثروات الجزيرة يقول تيث: "الموضوع الثاني المهم جداً للولايات المتحدة هو الموارد الطبيعية. هناك سلسلة من الموارد المهمة في غرينلاند، وقد أشار الاتحاد الأوروبي إلى أن 25 من أصل 34 مادة حرجة ضرورية للتكنولوجيا والتحول البيئي موجودة في غرينلاند".
وتحتوي غرينلاند على احتياطيات كبيرة من المعادن الأساسية، بما في ذلك الليثيوم والنيوبيوم والهافنيوم والزركونيوم، وهي مكونات رئيسية للبطاريات والتطبيقات التكنولوجية الأخرى.
وتأتي حوالي 90% من العناصر الأرضية النادرة المعالجة من الصين، مما يخلق نقاط ضعف في سلسلة التوريد تحاول العديد من الدول الآن تجنبها.
ووفقاً لتقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية عام 2025، تستورد الولايات المتحدة 50-100% من 41 معدناً من أصل 50 معدناً حرجاً. وتخشى إدارة ترامب من أن تستخدم الصين سيطرتها لإلحاق الضرر بالاقتصاد الأمريكي.
ويُعد مشروع كفانيفيلد في جنوب غرينلاند أحد أكبر الرواسب المعروفة للعناصر الأرضية النادرة في العالم، لكن تطويره توقف بعد أن حظرت حكومة غرينلاند تعدين اليورانيوم في 2021، في ضربة للمشروع الذي كانت شركة صينية تمتلك فيه حصة كبيرة.
قد تكون موسكو متورطة في القتال في أوكرانيا حالياً، لكن المسؤولين العسكريين الدنماركيين يتوقعون تماماً أن تحول روسيا الموارد بمجرد انتهاء الصراع وتشكل تهديداً أكبر بكثير في القطب الشمالي.
لدى روسيا وجود عسكري أكبر بكثير في القطب الشمالي من الولايات المتحدة واستمرت في الاستثمار بكثافة في قدراتها الدفاعية رغم الحرب.
وخلصت خدمة الاستخبارات الدفاعية الدنماركية إلى أن أقصى الشمال "أولوية لروسيا، وستظهر قوة المنطقة من خلال سلوك عدواني ومهدد، مما سيحمل معه خطر تصعيد أكبر من أي وقت مضى في القطب الشمالي".
الصين كثفت مطالباتها بالقطب الشمالي، وتشارك في دوريات وتمارين مع سفن روسية، وتمول مشاريع البنية التحتية القطبية وتطور خطة "طريق الحرير القطبي" للشحن.
وأعلنت الصين نفسها "دولة شبه قطبية"، رغم أن أكثر مدنها الرئيسية شمالاً تقع تقريباً بنفس مستوى البندقية الإيطالية.
الدول التي تستثمر في طرق الشحن القطبية، بما في ذلك الصين وكوريا الجنوبية، تتطلع لاستغلال ممرات بحرية شمالية أقصر يمكن أن تقلل أوقات الشحن بين آسيا وأوروبا بنسبة تصل إلى 40%.
ويقول تيث: "غرينلاند مطالب بها من الدنمارك منذ منتصف القرن السادس عشر. حتى 1953، كانت رسمياً مستعمرة دنماركية قبل دمجها في الأراضي الدنماركية. ثم نقل الدنماركيون سلسلة كاملة من السلطات للغرينلانديين في 1979 و2009، مما يؤدي اليوم إلى استقلالية واسعة للغاية، باستثناء المجالات النقدية والعسكرية والسياسة الخارجية".
ويضيف: "إنه إقليم تحت السيادة الدنماركية، لكن نرى بوضوح اليوم أن المسار نحو الاستقلال في أذهان جميع الغرينلانديين".
في أغسطس آب 2025، استدعت الدنمارك القائم بالأعمال الأمريكي بعد تقرير زعم أن ثلاثة مواطنين أمريكيين على الأقل لهم صلات بترامب كانوا يجرون عمليات نفوذ سرية في غرينلاند، بما في ذلك جمع قوائم بالغرينلانديين الداعمين أو المنتقدين للمصالح الأمريكية.
يشرح تيث كيف تعاملت الدنمارك وأوروبا مع ضغوط ترامب بالقول: "تسلسل ترامب، الذي بدأ في ديسمبر قبل تنصيبه، ثم تصاعد بتصريحات مقلقة، جاء في لحظة كانت فيها العلاقات الدنماركية-الغرينلاندية متوترة جداً. لكن يجب القول إن الدنماركيين تعاملوا بشكل جيد جداً، كانوا دائماً على خط دقيق للغاية، وهو التأكيد على سيادتهم من جهة، ومن جهة أخرى احترام سيادة الغرينلانديين".
ويضيف: "كان هناك إجماع، وهو ما لا يحدث دائماً داخل الاتحاد الأوروبي، على مسألة دعم غرينلاند والدنمارك. فرنسا مثال جيد، إذ أرسلت الرئيس في يونيو ووزير الخارجية في نهاية الصيف، في أغسطس الماضي. ألمانيا أيضاً عززت روابطها مع غرينلاند، وأرسلت إحدى أكبر سفنها العسكرية خلال الصيف".
التنافس على غرينلاند يعكس تحولاً عميقاً في الشأن الجيوسياسي عالمياة. فمع ذوبان الجليد القطبي، تُفتح طرق بحرية جديدة وإمكانية الوصول إلى موارد طبيعية هائلة. والمعركة ليست فقط على الأراضي، بل على السيطرة على سلاسل التوريد الحيوية للتكنولوجيا المتقدمة والطاقة النظيفة.
وكل قوة عظمى تدرك أن السيطرة على غرينلاند قد تعني السيطرة على جزء حاسم من مستقبل القرن الحادي والعشرين.