في لحظة سياسية تتداخل فيها البراغماتية مع حسابات القوة، تعود خريطة أوكرانيا إلى الواجهة بوصفها ساحة لتفاوض دولي محموم.
وبينما تُطرح خطة سلام جديدة قادمة من واشنطن، تبدو القرم ودونباس وكأنهما تتحركان من موقع أرض متنازع عليها إلى أرض ذات واقع مفروض، في تحول قد يفتح الباب أمام تسوية تاريخية أو يعيد المنطقة إلى مواجهة أطول وأعقد.
فالمبادرة التي تقوم على تثبيت واقع السيطرة الروسية دون اعتراف قانوني كامل، تُثير سؤالًا محوريًا، هل نحن أمام محاولة لطي صفحة الحرب، أم تأسيس لمرحلة جديدة من صراع طويل الأمد؟
أكد الخبراء أن مستقبل القرم ودونباس بات معلقًا بين اعتراف ضمني بالأمر الواقع أو الدخول في صراع طويل، خاصة وأن روسيا تسعى إلى "تسوية دائمة" تفرض منع أي تحرك عسكري أوكراني مستقبلي، بينما تتمسك كييف بالقانون الدولي وترى الضم "قسريًا".
وأضاف الخبراء أن تشدد موسكو وتمسك أوكرانيا بموقفها يجعلان من الوسطاء وفي مقدمتهم أمريكا وتركيا والسعودية والإمارات الطرف الأكثر قدرة على تضييق الهوة ودفع المسار نحو حل سياسي يحدد ما إذا كان الإقليم أمام نهاية واضحة أم بداية صراع ممتد.
في البداية، أكد المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، الدكتور محمود الأفندي، أن ملف إقليم الدونباس يمثل إحدى النقاط التي تراها أوروبا مركزية في مسار أي تسوية، وتضع روسيا في المقابل أولوية مطلقة لإنهاء الصراع بصورة "كاملة ودائمة".
وقال الأفندي في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" إن السؤال المطروح اليوم هو، ما المقصود بالوصول إلى "حياد أوكرانيا"؟ موضحًا أن قطاع واسع من المحللين يعتبر الوضع الراهن "نوعًا من الاحتلال"، وأن عدم الاعتراف به سيقود إلى صراع طويل تحاول فيه أوكرانيا استعادة هذه الأراضي.
وأشار إلى أن روسيا، ومن خلال مذكرة التفاهم التي قدمتها، وضعت النقاط على الحروف حين نصت بوضوح على عدم أحقية أوكرانيا في استرجاع هذه الأراضي عسكريًا، وإن كانت تملك حق التفاوض السياسي بشأنها.
وأضاف المحلل السياسي أن موسكو ترى في المسار السياسي خطوة طبيعية، لكنها ترفض بشكل قاطع أي تحرك عسكري لاستعادة الإقليم.
ولفت الأفندي إلى أن مطلب روسيا الخاص بنزع السلاح الأوكراني مرتبط بفكرة إنشاء منطقة عازلة حول إقليم دونباس، موضحًا أن هذا التفصيل ورد بوضوح في المذكرة، بما في ذلك الحد من الأسلحة المتقدمة في نطاق المنطقة.
وبين أن موسكو تعتبر استسلام أوكرانيا شرطًا أساسيًا لإنهاء النزاع بصورة نهائية، مشيرًا إلى أن بعض المحللين كانوا يعتقدون أن أوكرانيا قد تعيد محاولة الهجوم بعد تعزيز قدراتها خلال السنوات المقبلة، لكن المذكرة الروسية حسمت الأمر عبر تحديد عدد أفراد الجيش ومستوى التسليح المسموح به.
وأضاف الخبير في الشؤون الروسية أن المذكرة نصت أيضًا على حظر انضمام أوكرانيا إلى أي حلف عسكري معادي لروسيا، وعلى رأسه "الناتو".
وأوضح أن روسيا لم تكن تسعى إلى تجميد الصراع أو تحقيق مكسب مؤقت، بل إلى "نصر دائم" يضمن عدم عودة المواجهات مستقبلاً، ويكرس واقعًا سياسيًا وأمنيا مستقرًا من وجهة نظرها.
ومن جانبه، أكد رئيس المركز الأوكراني للتواصل والحوار، الدكتور عماد أبو الرب، أن منطقتي القرم والدونباس تخضعان اليوم لاحتلال وضم قسري بفعل السيطرة الروسية عليهما، مشيرًا إلى أن أوكرانيا ما زالت تتمسك بالقانون والميثاق الدولي اللذين ينصان على حماية حدود الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
وبين في تصريحاته لـ"إرم نيوز"، أن القانون الدولي، ولا سيما المادة الرابعة الفقرة الثانية، يجرم استخدام القوة لتغيير الحدود أو فرض واقع جديد بالقوة.
ولفت أبو الرب إلى أن المشهد الحالي يزداد تعقيدًا بسبب تشدد الموقف الروسي الذي يصر على سيطرته ويؤكد شرعية الضم بناءً على "تصويت داخلي"، ما يجعل فرص التراجع الروسي ضئيلة للغاية.
وأشار إلى أن أوكرانيا تدرس اليوم إمكانية القبول بالأمر الواقع من حيث السيطرة الروسية، دون الاعتراف بسيادتها على هذه الأراضي، مع ترك هذا الملف لمسار التفاوض والعمل الدبلوماسي مستقبلاً، وذلك بحثًا عن إنهاء للحرب يكون "دائمًا وليس مؤقتًا".
وأضاف أن المشهد ما زال محملاً بتعقيدات متشابكة، إلا أن العنوان الأبرز يبقى غياب فاعلية منظومة الأمم المتحدة في إنهاء الحروب والنزاعات.
وأوضح أبو الرب، أن الدور الأكبر بات يتجه نحو الوسطاء، وفي مقدمتهم أمريكا وتركيا والدول العربية ذات الاهتمام بهذا الملف، وعلى رأسها السعودية والإمارات، التي يمكن أن تسهم في تضييق الفجوة بين الأطراف ودفعها نحو تسوية سلمية مستقرة.