بعد يومين من الهجوم الروسي العنيف الذي استهدف مناطق في غرب أوكرانيا قرب الحدود مع بولندا الذي ما زالت أصداؤه تتردد في دوائر الأمن والدفاع الأوروبية، وسط تساؤلات متزايدة عن نوايا موسكو، ومدى استعداد حلف شمال الأطلسي «الناتو» للرد في حال اتسع نطاق الضربات.
في الساعات الأولى من صباح الإثنين، دوت صفارات الإنذار في معظم أنحاء أوكرانيا، تزامنًا مع هجوم صاروخي روسي واسع النطاق، وصف بأنه من الأعنف منذ أسابيع، استهدف مواقع قريبة من الحدود الغربية، ما استدعى ردًا عاجلًا من بولندا ودول الناتو، تمثل في إقلاع طائرات مقاتلة لحماية المجال الجوي.
وأعلنت القيادة العملياتية للقوات المسلحة البولندية أن مقاتلاتها إلى جانب طائرات تابعة لحلفاء في الناتو، أقلعت، بشكل فوري، لحماية المجال الجوي البولندي، بعد رصد الهجمات الروسية قرب الحدود الأوكرانية.
وتأتي هذه الخطوة في ظل حالة استنفار غير معلنة داخل حلف الناتو، الذي ينظر، بقلق متزايد، إلى التمدد الروسي باتجاه الغرب الأوكراني، خاصةً أن مواقع الضربات الأخيرة تقترب من الخط الأحمر الأمني للحلف، والمتمثل في الحدود البولندية.
يقول المراقبون إن موسكو تسعى، من خلال هذه الضربات، إلى اختبار الجبهة الغربية للناتو، والتحقق من مدى تماسكه واستعداده للدفاع عن أعضائه، في ظل تزايد الانقسام الأوروبي والغموض الأمريكي بشأن الملف الأوكراني.
ويرى محللون أن الضربات تحمل رسالتين، الأولى إلى كييف، ومفادها أنه لا منطقة آمنة بعد اليوم، وأن موسكو قادرة على الوصول إلى عمق الأراضي الأوكرانية؛ والثانية إلى الناتو، بأن روسيا تملك زمام المبادرة ولن تتردد في الاقتراب من حدود الحلف، إذا استمر الدعم العسكري الغربي لكييف.
وفي هذا الإطار، قال المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية الدكتور سعد خلف، إن الضربات الروسية الأخيرة التي استهدفت مناطق في غرب أوكرانيا ليست الأولى من نوعها، لكنها تحمل دلالات رمزية وجيوسياسية بالغة في هذا التوقيت، خاصة مع تصاعد التوتر بين موسكو وحلف شمال الأطلسي، لا سيما مع دول شرق أوروبا التي تنتهج موقفًا عدائيًا تقليديًا تجاه روسيا، مثل: بولندا، وإستونيا، ولاتفيا، ولتوانيا.
وأوضح خلف في حديث لـ«إرم نيوز»، أن هذا التصعيد يندرج ضمن ما يُعرف بالإستراتيجية الهجينة، حيث تختبر موسكو من خلال هذه الضربات مدى صلابة الناتو واستعداده للرد، خاصة بعد أن شهدنا تحركات جوية سريعة لمقاتلات بولندية وأخرى تابعة للحلف، والتي وصفها بأنها «ردود رمزية».
وأضاف أن موسكو نادرًا ما تقوم بعملياتها العسكرية لهدف وحيد، بل تسعى إلى تحقيق أكثر من غاية في توقيت واحد.
وأشار الخبير في الشؤون الروسية، إلى أن استهداف مناطق مثل لفيف، رغم بعدها عن خط المواجهة الشرقية، يحمل رسالة ضغط سياسي على كييف، مفادها أن روسيا قادرة على ضرب العمق الأوكراني وقتما تشاء، في محاولة لدفع الحكومة الأوكرانية نحو القبول بشروط موسكو للتسوية، وعلى رأسها حياد أوكرانيا، وعدم انضمامها إلى الناتو، والاعتراف بالمناطق التي ضمتها روسيا باعتبارها جزءًا من أراضيها.
وأكد خلف أن روسيا تعتبر التحركات الغربية بمثابة استغلال للحرب لإعادة تشكيل التموضع العسكري قرب حدودها، خاصة مع انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، وهو ما تعتبره موسكو تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
ولفت إلى أن شخصيات بارزة مثل ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي، بدأت تتبنى خطابًا أكثر صرامة، تضمن التلويح بضربات استباقية على دول أوروبية مثل بولندا، معتبرًا ذلك رسالة ضغط إضافية، رغم تأكيد موسكو المتكرر أنها لا تخطط للهجوم على الناتو.
ورأى خلف أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتعمد السخرية من التحذيرات الغربية، ويكرر أن بلاده لا تنوي مهاجمة الناتو، لكن الوقائع على الأرض تشير إلى أن موسكو تختبر بشكل عملي مدى جهوزية الحلف، في ظل غموض السياسة الأمريكية تجاه الصراع.
وأضاف المحلل السياسي، أن موسكو لا يمكنها التراجع عن شروطها بعد التكاليف الكبيرة التي دفعتها في هذه الحرب، بينما لا يبدو أن كييف، بدعم واضح من دول، مثل: فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، مستعدة لأي تنازل حقيقي في الوقت الراهن.
وأكد أن هذا التصعيد يحمل رسالتين واضحتين، الأولى الضغط على كييف للدخول في تسوية بشروط روسية، والثانية اختبار صلابة الناتو قرب حدوده الشرقية، في ظل قيادة أمريكية تتسم بالغموض فيما يتعلق بالملف الأوكراني.
من جهته، قال الدبلوماسي والأكاديمي المتخصص في شؤون شرق أوروبا الدكتور ياسين رواشدي، إن التصعيد العسكري الروسي جاء كرد مباشر على الدعم العسكري الغربي المتزايد لأوكرانيا، بما في ذلك تزويدها بصواريخ باتريوت ومنظومات دفاعية متقدمة لم تكن مستخدمة بهذه الكثافة في المراحل السابقة من الحرب.
وأكد لـ «إرم نيوز» أن موسكو تعاملت مع التصريحات الأمريكية الأخيرة، التي تضمنت تحديد مواعيد زمنية لما يُفترض أن يكون «استعدادًا روسيًا للمفاوضات»، بوصفها نوعًا من الابتزاز السياسي، لا يمكن القبول به.
واعتبر أن هذا الأسلوب في الخطاب يشبه ما تمارسه واشنطن مع دول مثل إيران أو إسرائيل، وليس مع دولة كبرى تملك قوة ردع إستراتيجية مثل روسيا.
وأشار رواشدي إلى أن تصريحات ميدفيديف التي قال فيها «روسيا ليست دولة يُفرض عليها توقيت الرد أو أسلوبه» تعكس بدقة الموقف الرسمي الروسي، والذي يقوم على رفض الضغوط الزمنية أو السياسية من جانب واشنطن أو حلفائها الأوروبيين.
وأضاف، أن موسكو ترى نفسها قوة عظمى، ولها اليد الطولى ميدانيًا، وتستعد لترجمة هذا التفوق العسكري إلى موقف تفاوضي أكثر حسمًا.
ورأى أن الضربات الأخيرة تحمل أيضًا رسالة واضحة لحلف الناتو بأن روسيا لا تعتزم الدخول في مفاوضات من موقع الضعف، بل على العكس، فإن تفوقها العسكري سيُستخدم كورقة ضغط حقيقية في أي حوار قادم.
وتوقع أن تعلن تركيا قريبًا عن جولة جديدة من المفاوضات بين موسكو وكييف في إسطنبول، في ظل جهود تركية نشطة لتقريب وجهات النظر، ما لم يؤدِ التصعيد الأخير إلى تغيير قواعد الاشتباك بشكل كامل.