تواجه أوروبا اليوم تحديًا استراتيجيًا مزدوجًا غير مسبوق، فبينما تتصاعد التهديدات الأمنية على حدودها الشرقية مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، تجد القارة العجوز نفسها في قبضة أزمة ديموغرافية صامتة قد تكون أخطر من أي تهديد عسكري خارجي.
فالمجتمعات الأوروبية تشيخ بوتيرة متسارعة، ومعدلات الخصوبة تنخفض إلى مستويات قياسية، والقوى العاملة تتقلص، في وقت تحتاج فيه الجيوش الأوروبية إلى مزيد من الجنود لمواجهة احتمالات صراع طويل الأمد.
وتكشف التقارير الحديثة من مراكز الأبحاث الدولية والمؤسسات الأكاديمية عن حقيقة مقلقة: أوروبا ليست مستعدة للحرب، ليس فقط من الناحية العسكرية أو المالية، بل والأهم من ذلك، من الناحية الديموغرافية والمعنوية.
ويفرض التحول الديموغرافي الذي تشهده القارة - من مجتمعات شابة إلى مجتمعات مسنة - أعباء اقتصادية متزايدة، ويقلص حجم القوى العاملة العسكرية المحتملة، ويضعف الإرادة الجماعية للدفاع عن الوطن.
تشير الأرقام إلى أن جميع دول حلف الناتو الأعضاء سجلت في عام 2023 معدلات خصوبة أقل من معدل الإحلال البالغ 2.1 طفل لكل امرأة.
ففي إسبانيا، وصل المعدل إلى 1.29 طفل فقط، بينما حتى تركيا، التي تتمتع بأعلى معدل خصوبة بين دول الناتو، سجلت 1.86 طفل لكل امرأة.
وفي إنجلترا وويلز، انخفض معدل الخصوبة للسنة الثالثة على التوالي ليصل إلى مستوى قياسي منخفض بلغ 1.41، مما دفع الخبراء للحديث عن "لحظة انتقالية حقيقية" في التاريخ البشري.
التحدي لا يقتصر على انخفاض معدلات المواليد، فقد ارتفع متوسط العمر المتوقع عالميًا من 50 عامًا في العام 1960 إلى 71 عامًا في العام 2023، مما يعني أن المجتمعات الأوروبية تشيخ من طرفين: أقل مواليد وأعمار أطول.
وفي إيطاليا، أكبر دول الناتو سنًا، يبلغ متوسط عمر سكانها 46 عامًا، وبحلول العام 2050، سيتجاوز ثلثا دول الناتو هذا المعيار.
وحتى تركيا، الأصغر سنًا حاليًا بمتوسط عمر 31.8 عامًا، سيرتفع متوسط عمر سكانها إلى 41.1 عامًا بحلول العام 2050.
الأرقام المستقبلية أكثر إثارة للقلق، فبحلول العام 2050، ستشهد شرق آسيا انخفاضًا بنحو 48 مليون شخص في الفئة العمرية 18-23 عامًا (انخفاض بنسبة 42%)، وستفقد أوروبا 8 ملايين شخص (انخفاض بنسبة 17%).
وهذا يعني ببساطة أنه سيصبح من الصعب جدًا إيجاد ما يكفي من الشباب للخدمة في القوات المسلحة.
بعد نهاية الحرب الباردة، قامت معظم الدول الأوروبية بتعليق أو إلغاء التجنيد الإجباري، معتمدة على قوات تطوعية محترفة، لكن هذا النموذج يواجه الآن أزمة حادة.
في ألمانيا، رغم خطة المستشار السابق أولاف شولتس لتوسيع الجيش الألماني إلى 203,000 جندي بحلول العام 2031، تقلصت القوات المسلحة إلى حوالي 181,500 رجل وامرأة في العام 2023، انخفاضًا من 183,050 في العام 2022.
أما الجيش البريطاني، الذي كلف شركة خاصة بالتجنيد، يستمر في الفشل في تحقيق أهداف التجنيد.
وحتى في الولايات المتحدة، تعاني جميع الخدمات العسكرية من صعوبات في التجنيد.
التحدي لا يقتصر على التجنيد فقط، ففي فرنسا، يبقى الأفراد العسكريون في مناصبهم الآن لمدة أقل بعام واحد في المتوسط مما اعتادوا عليه، وفي العام 2022، بلغ معدل إنهاء العقود قبل انتهاء التدريب 32%.
وفي بولندا، رغم ارتفاع عدد المجندين في العام 2022، غادر الجنود الأكثر خبرة بأعداد كبيرة، مما أدى إلى نزوح ما يقرب من 9,000 جندي محترف.
ووفقًا لمسح أجرته منظمة "EUROMIL" في العام 2024، كان التوازن السيئ بين العمل والحياة، ونقص الموظفين، ومحدودية فرص التقدم الوظيفي، والتعويضات غير التنافسية من بين الأسباب الأكثر شيوعًا لتراجع الروح المعنوية وزيادة التسرب.
في مواجهة هذه الأزمة، بدأت عدة دول أوروبية بإعادة النظر في التجنيد الإجباري.
ومنذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014، أعادت عدة دول تطبيق التجنيد الإجباري، بما في ذلك ليتوانيا عام (2015)، والسويد عام (2017)، ولاتفيا عام (2023).
وفي فنلندا، يجب على كل مواطن ذكر تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عامًا أداء الخدمة العسكرية أو المدنية، ويمكن للنساء التطوع، وحوالي 70% من الرجال المؤهلين يكملون الخدمة العسكرية سنويًا.
النتيجة: تمتلك فنلندا واحدة من أكبر قوات الاحتياط في أوروبا، وقادرة على حشد 285,000 جندي في زمن الحرب، وهو إنجاز مثير للإعجاب مع الأخذ في الاعتبار أن إجمالي عدد سكان فنلندا 5.6 مليون فقط.
أما النرويج والسويد فقد طورتا نظامًا انتقائيًا يختار المرشحين بناءً على دوافعهم ومؤهلاتهم.
في النرويج، من بين حوالي 60,000 رجل وامرأة مؤهلين سنويًا، يتم اختيار حوالي 9,000 فقط للخدمة العسكرية الإلزامية، مما يجعل الخدمة العسكرية أكثر انتقائية من بعض الجامعات.
لكن نسخ هذه النماذج في أوروبا الغربية والوسطى يواجه عقبات كبيرة، أولها التكلفة المالية الباهظة، فالخدمة الإلزامية الشاملة تتطلب موارد كبيرة.
وقال مفتش الجيش الألماني إنه في حالة إعادة التجنيد لفئة عمرية كاملة، سيضطر لتخصيص ثلث موظفيه للتدريب.
أما العقبة الثانية فتتمثل بنقص البنية التحتية، إذ حذر الزميل الزائر البارز في مركز السياسة الأوروبية، كريس كريميداس-كورتني، قائلًا: "في الوقت الحالي، لا تمتلك أوروبا الثكنات أو ميادين التدريب أو المدربين اللازمين لاستيعاب أفواج كبيرة من المجندين".
وتتمثل العقبة الثالثة في المنافسة مع الرعاية الصحية والمعاشات، حيث تتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن ترتفع نفقات المعاشات بمتوسط 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي بين أعضائها في الناتو، مما يقلل الموارد المتاحة للإنفاق الدفاعي.
وربما يكون التحدي الأكبر معنويًا وليس ماديًا، إذ وجد استطلاع حديث أجرته "غالوب" أن 32% فقط من مواطني الاتحاد الأوروبي سيكونون على استعداد للقتال من أجل بلدهم في حالة الحرب.
ففي ألمانيا، بينما أيد 52% من المستجيبين الخدمة الإلزامية في الجيش، عارضها 59% من المستجيبين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا، الفئة العمرية التي ستتأثر بإعادة التجنيد.
وفي المملكة المتحدة، قال ثلث المستجيبين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عامًا إنهم سيرفضون الخدمة في القوات المسلحة حتى لو كانت بريطانيا تواجه غزوًا وشيكًا.
في حين يمثل "الجيل زد" البريطاني حالة خاصة: فقط 11% منهم يقولون إنهم سيقاتلون من أجل بلدهم.
وعندما سُئل البريطانيون عن سبب رفضهم الخدمة إذا تم استدعاؤهم، أشار المستجيبون إلى عدم الرغبة في القتال من أجل النخبة، وانعدام الوطنية للمخاطرة بحياتهم من أجل بلدهم، بالإضافة إلى مخاوف أيديولوجية ودينية.
هذا الفتور الوطني ليس عشوائيًا، إذ يقول تقرير لمركز أبحاث "MCC" في بروكسل: "بعد سنوات من تهميش المواطنين وتنفيرهم، قوضت القيادات الأوروبية أسس الولاء والواجب والهدف المشترك التي تعتمد عليها الحروب في النهاية".
وتظهر الدول الأقرب إلى روسيا صورة مختلفة، ففي فنلندا، أجاب 79% من المشاركين في استطلاع العام الماضي بالإيجاب عندما سُئلوا: "إذا تعرضت فنلندا للهجوم، هل يجب على الفنلنديين، في رأيك، حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم في جميع الحالات، حتى لو بدت النتيجة غير مؤكدة؟".
وفي لاتفيا، بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، ارتفعت نسبة تأييد إعادة التجنيد الإجباري من 45% في مايو/أيار العام 2022 إلى 61% في يونيو/حزيران العام 2023.
وهناك جانب مفاجئ لهذه الأزمة الديموغرافية، حيث تشير الأبحاث إلى أنه مع تقدم الدول في السن، تصبح أقل استعدادًا وقدرة على بدء أو مواصلة الصراع العسكري، فالدول ذات السكان الأصغر سنًا أكثر عرضة إحصائيًا للصراع، في حين تظهر المجتمعات الأكبر سنًا ترددًا ملحوظًا في بدء الأعمال العدائية.
ومن العام 2012 إلى العام 2023، كانت الدول التي بدأت الصراعات العسكرية تمتلك سكانًا، حيث 5% فقط كانوا يبلغون 65 عامًا أو أكثر، أي حوالي نصف المتوسط العالمي في العام 2024.