بالتوازي مع تصاعد النشاط البحري الأمريكي قرب السواحل الفنزويلية، بدأت تتضح ملامح تحوّل نوعي في كيفية إدارة واشنطن لحضورها في منطقة الكاريبي.
والقوة البحرية التي تمركزت خلال الأيام الأخيرة في هذا النطاق جاءت لتعكس توجهاً أكثر صراحة نحو إعادة رسم شروط النفوذ في محيط استراتيجي لطالما تعاملت معه الولايات المتحدة كامتداد مباشر لدوائر مصالحها.
المسألة لم تعد تتعلق بخطوط تهريب أو مهام مراقبة بحرية، إذ يحمل التموضع العسكري بحسب مراقبين دلالات سياسية واضحة، في مرحلة يتقاطع فيها تراجع الحضور الأمريكي التقليدي مع تمدد نفوذ قوى منافسة مثل الصين وروسيا، ومع تصاعد التوترات المرتبطة بملف الهجرة والانكشاف الاقتصادي الإقليمي.
وقال مسؤول أمريكي في وزارة الخارجية، يعمل في تنسيق السياسات الدفاعية والمدنية المرتبطة بأمريكا اللاتينية، إن الانتشار البحري الأمريكي قرب السواحل الفنزويلية يأتي في سياق مراجعة أوسع لتوجهات الحضور الأمريكي في منطقة الكاريبي، في ضوء التحولات الجارية في خارطة التأثير الإقليمي والدولي.
وأوضح المصدر، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن التحرك لا يُقرأ داخل الإدارة الأمريكية كاستجابة طارئة لحادثة أو تهديد محدد، وإنما كخطوة مدروسة تهدف إلى استعادة نوع من التوازن الاستراتيجي في منطقة شهدت خلال السنوات الأخيرة تنامياً واضحاً لحضور قوى دولية أخرى، أبرزها الصين وروسيا، في ملفات تتراوح بين التعاون الاقتصادي، والشراكة الأمنية، والتواصل السياسي مع حكومات تعتبرها واشنطن ذات توجهات مغايرة.
وأشار إلى أن هذا التحول في خارطة العلاقات داخل أمريكا اللاتينية، وتحديداً في المجال البحري المرتبط بالحوض الكاريبي، دفع إلى تقييم الحاجة إلى حضور أكثر وضوحاً من قبل واشنطن، ليس بقصد المواجهة أو فرض الهيمنة، بل لضمان ألَّا تخرج هذه المنطقة بالكامل من دائرة التأثير الأمريكي التقليدي، حسب تعبيره.
وشدّد المصدر على أن التحرك البحري الأخير ليس موجهاً ضد دولة بعينها، ولا يحمل طابعاً صدامياً، ولكنه يعكس، بحسب وصفه، إدراكاً متزايداً داخل المؤسسات الأمريكية بأن غياب الحضور النشط في بعض النطاقات الجغرافية أتاح فرصاً لقوى أخرى لتوسيع نفوذها.
وأضاف بأن واشنطن تسعى من خلال هذا الانتشار إلى إعادة تأكيد موقعها كشريك أمني في المنطقة، بما يشمل التعاون مع دول الجوار في ملفات تتعلق بالمراقبة البحرية، ومكافحة التهريب، وتبادل المعلومات.
وأشار إلى أن "الولايات المتحدة لا ترى في هذه الخطوة بديلاً عن الحوار، ولا تتعامل معها كذراع ضاغطة على طرف محدد، بل كجزء من أدوات الحفاظ على التوازن الاستراتيجي، في منطقة أصبحت فيها خطوط النفوذ أكثر تعقيداً وتشابكاً مما كانت عليه في العقود السابقة".
كما أكد أن "منظور الإدارة الأمريكية الحالي لا يفصل بين البُعد الأمني والبُعد الجيوسياسي، لكنها في المقابل تسعى إلى الحفاظ على بيئة بحرية مفتوحة وآمنة، من دون الاصطفاف مع منطق التصعيد أو الاستقطاب الحاد، وبما يترك الباب مفتوحاً أمام التعاون الإقليمي، بما فيه مع الدول التي ترتبط بعلاقات قوية مع أطراف دولية أخرى".
وجاء نشر المجموعة البحرية الأمريكية في الكاريبي بما فيها حاملة الطائرات "USS Gerald R. Ford" جاء في إطار ما وصفتها وزارة الحرب الأمريكية بـ"جهود مكثفة لمراقبة وتفكيك شبكات تهريب المخدرات".
ومع ذلك، فإن مصادر دبلوماسية أوروبية ترى، خلال تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن الحجم والمكوّنات (حاملة طائرات، غواصة نووية، طائرات F-35) تتجاوز ما يلزم لمحاربة المخدّرات وحدها، وتفتح احتمالاً بتدخل أوسع أو على الأقل بإعادة ضبط استراتيجية الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي.
ثمة أيضاً عامل داخلي أمريكي، بحسب المصادر ذاتها، فالإدارة الأمريكية ترى في تهريب المخدّرات عبر الكاريبي تهديداً للأمن الداخلي. ومن جهة فنزويلا، اعتبرت الحكومة هذا الحشد البحري تهديداً مباشراً لسيادتها، وتحمّلت الأمر كخطوة من واشنطن نحو "إملاء ضغوط سياسية".
ويتكون الدافع الأمريكي من عنصر أمني-داخلي، عنصر نفوذ إقليمي، وعنصر رمزي في مواجهة منافسين محتملين.
وتراكُم الحضور الأمريكي في الكاريبي لا يحدث بمعزل عن تبدلات أوسع في السياسة العالمية، فروسيا تواصل علاقاتها مع فنزويلا عبر تسليحها ودعمها السياسي، مما يجعل الكاريبي ومحيط فنزويلا ساحة محتملة لتوسّع موسكو في نصف الكرة الغربي.
الصين، رغم أنها ليست عنصرا عسكريا ظاهرا في الكاريبي حتى الآن، فإنها توسّع استثماراتها في أمريكا اللاتينية، ما يمنحها "خطّ نفوذ" غير مباشر داخلياً في المنطقة.
بناءً عليه، واشنطن تبدو كأنها تحاول الحفاظ على "دائرة خلفية" في أمريكا اللاتينية، ومنع تقويض منفذها التقليدي من قبل قوى منافِسة.
من زاوية التحالفات الإقليمية، دول مثل غيانا (والتي لديها نزاع حدودي مع فنزويلا) قد تستثمر التوتر الأمريكي-الفنزويلي لصالحها، في حين أن فنزويلا من جانبها قد تبحث مزيداً من التفاف وتحالف مع روسيا أو الصين لتعزيز قدرة المناورة. بذلك؛ خريطة النفوذ تتغيّر، حيث لم تعد واشنطن تتحكّم وحدها، لكنها أيضاً تسعى بإدارة "أكثر نشاطاً" في منطقتها الجغرافية.
كذلك فإن وجود القوات البحرية الأمريكية قرب سواحل فنزويلا قد يُستخدم كأداة للضغط على تدفّق المهاجرين نحو أمريكا الشمالية أو دول الكاريبي. ارتدادات ذلك تشمل دول المنبع ودول المقصد، مع احتمال أن تشترط واشنطن تعاوناً أكبر من هذه الدول مقابل حاجتها لتثبيت الحضور البحري.
محللة السياسات الأمنية، والمتخصصة في الشأن العسكري والدبلوماسي الأمريكي، ليزا غرينوود، تعتبر أن الانتشار العسكري الأمريكي قرب فنزويلا؛ يعكس في جوهره محاولة لإعادة تثبيت قواعد النفوذ الأمريكي في منطقة كانت تاريخياً تحت السيطرة المباشرة أو غير المباشرة لواشنطن، قبل أن تتراجع مكانتها لصالح قوى أخرى خلال العقد الأخير.
وتشرح غرينوود، خلال حديثها لـ"إرم نيوز"، أن ما تغيّر ليس فقط موقع فنزويلا في السياسة الإقليمية، وإنما طريقة تعامل واشنطن مع المجال الكاريبي، حيث لم تعد تعتمد على منظومة التحالفات التقليدية وحدها، بل بدأت تستخدم أدوات ميدانية مباشرة لتوجيه رسائل مزدوجة.
وهذه الرسائل من جهة، للخصوم مثل الصين وروسيا بأن الحضور الأمريكي لا يزال قائماً في هذه المنطقة، ومن جهة ثانية، للحلفاء الإقليميين الذين باتوا ينظرون إلى واشنطن كفاعل غائب أكثر منه شريكاً مستقراً".
وتؤكد أن التحرك الأخير لا يمكن فصله عن تغير ملامح السياسة الأمريكية في نصف الكرة الغربي، والتي باتت تتبنى مقاربة أقرب إلى إدارة التوازنات الدقيقة منها إلى فرض الشروط.
وتضيف بأن "إعادة نشر قوة بحرية كبيرة لا تهدف فقط إلى الردع، إذ تهدف إلى إعادة تنظيم حقل النفوذ البحري الأمريكي في وجه محاولات الالتفاف عليه، سواء عبر الاستثمار الصيني في الموانئ والبنية التحتية، أو من خلال التعاون العسكري الروسي مع أنظمة غير منسجمة مع السياسات الأمريكية".
وتؤكد بأن هذا التحرك يحمل أيضاً بُعداً تفاوضياً غير معلن، يتمثل في توظيف أدوات الردع البحري للضغط في ملفات غير عسكرية كالهجرة والتهريب والطاقة. بالنسبة لغرينوود، فإن الإدارة الأمريكية لا تملك ترف الانتظار إلى أن تستقر المعادلات الإقليمية تلقائياً، بل ترى في التحرك البحري وسيلة عملية لإعادة إدخال نفسها في معادلات كانت قد بدأت تتشكل من دونها.
وتلفت غرينوود إلى أن ما يعطي هذا التحرك زخماً خاصاً هو توقيته، إذ يتقاطع مع حالة ضبابية في علاقات واشنطن بعدد من العواصم اللاتينية، ومع ميل متزايد لدى بعض الحكومات لإعادة صياغة أولوياتها بعيداً عن الاصطفاف التقليدي مع الولايات المتحدة.
وتشير إلى أن هذه التحولات باتت تستدعي حزمة أدوات أكثر وضوحاً، من بينها الحضور البحري النشط، باعتباره شكلاً من أشكال "التذكير الاستراتيجي" بموقع الولايات المتحدة في معادلات النفوذ الإقليمي.
وتضيف أن تموضع القوة البحرية قرب فنزويلا لا يُقرأ في واشنطن بمعزل عن تطورات أخرى تجري في محيطها، بما فيها الديناميات التي تشهدها غيانا، وتحركات شركات الطاقة العابرة للحدود، والرهانات الجديدة لبعض القوى الكبرى على إعادة استخدام الموانئ الكاريبية كمفاتيح للنفاذ التجاري أو العسكري، وهو ما يفسِّر، بحسب غرينوود، اعتماد الإدارة الأمريكية على أدوات دفاعية نشطة بدلاً من الاكتفاء بالدبلوماسية التقليدية.
وترى أن الحضور العسكري بهذا الشكل لا يعني بالضرورة نية التصعيد، لكنه يوفّر مجالاً أوسع لإدارة التفاوض من موقع متقدم، خصوصاً في ملفات معقدة مثل مكافحة التهريب البحري المنظم، وتأمين طرق الإمداد البحري الإقليمي، وتعقيد أي مشاريع بنية تحتية كبرى يُشتبه في أنها تمنح موطِئ قدم طويل الأمد لقوى منافسة.
وختمت بالقول إن مقاربة الإدارة الأمريكية الحالية في الكاريبي تعتمد على "إظهار القدرة من دون استخدام القوة"، وهي صيغة تسعى من خلالها واشنطن إلى إعادة تثبيت موقعها من دون أن تفتح جبهة مفتوحة مع الأطراف الدولية الأخرى، لكنها في الوقت ذاته لا تسمح بهوامش مناورة واسعة تُمنح لفاعلين جدد في منطقة لا تزال تحظى بأولوية استراتيجية لدى مؤسسات القرار الأمريكي.
ويرى إدغار أورتيغا، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الوطنية الكولومبية، أن الانتشار البحري الأمريكي قرب فنزويلا يُفهم في العواصم اللاتينية كمؤشر على أن واشنطن تسعى لاستعادة المبادرة في منطقة بدأت تتشكل فيها مراكز نفوذ موازية، بعضها يرتبط بمشاريع دولية كبرى لا تمر عبر القنوات الغربية التقليدية.
ويؤكد أورتيغا، في حديثه لـ"إرم نيوز"، أن كثيراً من دول المنطقة تنظر إلى هذا التحرك بحذر؛ لأنه يعيد استحضار أدوار أمريكية قديمة ما تزال مثيرة للجدل في الذاكرة السياسية اللاتينية.
ويضيف: "الرسالة التي تصل إلى بعض العواصم ليست بالضرورة أن الولايات المتحدة تعود كشريك ضامن، بل قد يُفهم التحرك على أنه محاولة للضغط على موازين بدأت تتغير فعلياً لصالح قوى أخرى، وليس رغبة حقيقية في بناء توازنات جديدة على أسس تفاوضية".
ويشير إلى أن دولاً مثل غيانا وترينيداد والدومينيكان تجد نفسها في موقع معقد، إذ إن وجود قوة بحرية بهذا الحجم في محيطها لا يتيح لها هامشاً مريحاً للمناورة.
فمن جهة، تعتمد هذه الدول على التمويل الصيني وعلى بعض المشاريع المرتبطة بالبنية التحتية والطاقة. ومن جهة ثانية، تدرك أن بقاءها خارج الترتيبات الأمنية الأمريكية قد يُقرأ كإشارة سياسية خاطئة. وهذا ما يخلق حالة من التردد المؤسساتي في كثير من مراكز القرار المحلي، ويدفع بعضها إلى مراجعة مواقفها بصمت.
ويحذر الباحث الكولومبي من أن هذا التمدد البحري، إذا لم يُرفق بخطة سياسية تحترم خصوصية السياق الإقليمي، فقد يواجه بردود فعل غير محسوبة من الفاعلين المحليين.
ويقول أورتيغا: "أي إشارة إلى الحضور العسكري، ولو تمت عبر قنوات دبلوماسية، تفتح نقاشاً داخلياً حول السيادة والاصطفاف والمصالح الوطنية، خصوصاً في الدول التي تسعى للخروج من التبعية التاريخية".
ويضيف أورتيغا أن عدداً من الحكومات في أمريكا الوسطى والجنوبية بدأت تتعامل مع هذا الوجود العسكري الأمريكي بكثير من التحفظ؛ فالمشكلة تكمن في غياب المشاورات المسبقة مع دول المنطقة.
في هذا السياق، يرى أن بعض العواصم بدأت تشعر أن واشنطن تتصرف منفردة، حتى في ملفات من المفترض أنها تتطلب تنسيقاً إقليمياً حقيقياً، لا استعراضاً للقوة.
ويشير إلى أن منطقة الكاريبي لم تعد كما كانت في العقود السابقة؛ "فالمعادلات اليوم أكثر تعقيداً، والمسارات السياسية والاقتصادية فيها تتقاطع مع أطراف متعددة، ولم يعد سهلاً على أي قوة، حتى لو كانت الولايات المتحدة، أن تفترض قدرتها على التحكّم بالوضع أو إعادة ترتيبه كما تشاء.
ولذلك؛ فإن الدول الأصغر، التي تعاني أصلاً من اختلال في موازين القوى، تجد نفسها بين خيارين غير مريحين؛ إما أن تُدرج نفسها ضمن ترتيبات لم تُستشر فيها، أو أن تُخاطر بالخروج من أي معادلة أصلاً".
ويختم أورتيغا تحليله بالإشارة إلى أن إعادة رسم النفوذ في الكاريبي لا يمكن أن تتم عبر أدوات أحادية، "فإذا أرادت واشنطن أن تحافظ على موقعها، فعليها أن تُعيد بناء ثقتها في المنطقة، لا أن تراهن فقط على فائض القوة".
أما الدول اللاتينية، فهي اليوم أقل ميلاً للانخراط في محاور مغلقة، وأكثر ميلاً لحماية توازناتها الذاتية، ولو عبر توزيع شراكاتها على قوى متعددة".