قال خبراء فرنسيون إنّ النقاشات التي تشهدها الجمعية الوطنية (البرلمان) حول ميزانية 2026 عكست أعمق أزمة توازنات سياسية في فرنسا خلال العقود الأخيرة.
جاء ذلك في ظل غياب الأغلبية البرلمانية التقليدية، وتشكّل تحالفات متقلبة يصعب التنبؤ بها، إلى درجة أنّ أحزاباً متنافرة أيديولوجياً وجدت نفسها تصوّت في الاتجاه نفسه، بينما يتراجع حضور التسويات السياسية التي كانت تُعدّ ركيزة العمل البرلماني الفرنسي.
وقال الباحث الفرنسي في العلوم السياسية برتران بادي، أستاذ العلاقات الدولية في معهد العلوم السياسية بباريس لـ"إرم نيوز" إن المشهد البرلماني الفرنسي يعيش ما يمكن وصفه بمرحلة تفكك للسلطة الوسيطة.
وأوضح أنه لم يعد هناك حزب قادر على لعب دور "بيضة القبان"، ما يجعل كل تصويت مفاجأة جديدة، ويفتح الباب أمام تحالفات ظرفية لا يجمع بينها أي رابط سياسي أو أيديولوجي".
وأضاف بادي: "ما نشهده في نقاشات الميزانية ليس مجرد خلافات حول أرقام أو نسب ضريبية، بل أزمة ثقة عميقة تعكس هشاشة النظام السياسي بعد انتهاء عصر الأغلبية المريحة".
أما الخبير الاقتصادي الفرنسي، توماس بيكيتي، الباحث في مدرسة الاقتصاد بباريس فيرى في تصريحات لـ"إرم نيوز" أن النقاش المالي يخفي معركة أكبر حول نموذج توزيع الثروة حيث إن "الميزانية تكشف تناقضين رئيسين، فالحكومة تريد خفض الإنفاق الاجتماعي بحجة العجز، وكتلاً معارضة تعتبر أن الأزمة الحقيقية تكمن في الامتيازات الضريبية التي تستفيد منها الشرائح الأكثر ثراء".
ويتابع بيكيتي قائلاً: "المعركة حول ضرائب البيوت العائلية الكبرى، وشركات الوراثة، ليست تقنية، إنها سياسية بامتياز، ومعركة حول من يدفع ثمن الإصلاحات: الأغنياء أم الطبقات العاملة".
ومع اقتراب الساعة من منتصف الليل، توقف فحص مشروع قانون المالية في الجمعية الوطنية، بعدما بقي ما يقارب 2,300 تعديل دون مناقشة.
ووفقاً للدستور، سيتعين على الحكومة نقل المشروع إلى مجلس الشيوخ قبل 23 نوفمبر، ما يجعل خطر تمرير النص بصيغته الأصلية قائماً، وهو ما يخشاه عدد كبير من النواب.
وزيرة الحسابات العامة، أميلي دو مونتشالين، سارعت إلى تهدئة الأجواء، متعهدة بأن كل التعديلات التي حازت تصويتاً إيجابياً ستُنقل إلى مجلس الشيوخ، لكن خبراء القانون الدستوري يؤكدون أنّ الحكومة تمتلك الحق – في حالة انتهاء المهلة – في إرسال الصيغة الأصلية فقط، ما يعني عملياً إلغاء ثمار النقاش البرلماني.
وشهدت قاعة الجمعية الوطنية تحالفاً غير اعتيادي جمع اليسار الراديكالي واليمين المتطرف واليمين الجمهوري في الاتجاه نفسه، بعدما صوّت نواب فرنسا الأبية والحزب الشيوعي والجمهوريون والتجمع الوطني لإسقاط المقترح الحكومي الذي يفرض ضرائب على التعويضات اليومية المقدَّمة لمرضى الأمراض طويلة الأمد، في خطوة مثّلت واحدة من أكثر المفاجآت السياسية صدمة خلال مناقشات ميزانية 2026.
وقد وصفت النائبة عن فرنسا الأبية، ماتيلد فيلد، الإجراء بأنه "ممارسة غير أخلاقية تهدف إلى سد العجز على حساب الفئات الأكثر هشاشة"، بينما رأى نائب التجمع الوطني جان فيليب تانغي أن ما طُرح: "ليس إصلاحاً بل عقوبة على المرضى"، ما كشف حجم الغضب البرلماني من أي إجراء مالي يطال الفئات الصحية الأكثر ضعفاً.
وتحالف آخر غير متوقع، هذه المرة يضم الوسط، اليمين والجبهة الوطنية، أسقط مقترحاً حكومياً برفع الضرائب على الوقود الحيوي B100 وE85 ليتم رفض الإجراء بأغلبية مريحة (147 مقابل 43).
وقال البروفيسور بادي إن "البرلمان الفرنسي اليوم أشبه بساحة تكتيكية وليست ساحة تشريعية. لا يوجد مشروع وطني متفق عليه، بل مواجهات قصيرة الأمد".
ورأى أن غياب التوافق لا يعني فقط تباطؤ العمل البرلماني، بل: "يهدد ثقة الشارع، ويغذي تصوّر أن الدولة أصبحت غير قادرة على الحسم".
واعتبر توماس بيكيتي أن الميزانية لا تقدّم استراتيجية طويلة المدى، حيث إن "هناك غيابًا لسياسة استثمارية واضحة في التعليم والتحوّل البيئي، ويتم التركيز على العجز دون النظر إلى أي سياسة إنتاجية".
ويرى أن إبقاء الامتيازات الضريبية على الثروات الكبيرة بينما تُمس الفئات الاجتماعية المتوسطة يخلق: "ميزانية غير عادلة اجتماعياً، حتى لو كانت متوازنة محاسبياً".