بينما تشهد سماء أوكرانيا ازدحاما بالطائرات المسيّرة، وتتراجع فاعلية الدبابات الثقيلة والأسلحة التقليدية أمام تقنيات الرصد والتدمير الدقيقة، لجأت موسكو إلى مسار مفاجئ يعيد إلى الأذهان فلسفة "الفرسان" القدامى، ولكن بأدوات عصرية.
وبدلا من الخيول هناك دراجات نارية، وفرق صغيرة تُنفّذ هجمات سريعة، في مشهد يُشبه إلى حد بعيد تكتيكات "التنانين" التي ظهرت في أوروبا خلال القرن السابع عشر.
ففي مناطق مثل بوكروفسك شرق أوكرانيا، بدأت وحدات روسية صغيرة تنفذ عمليات هجومية خاطفة باستخدام دراجات نارية، يتكوّن كل فريق منها من جندي مقاتل وسائق مزوّد بجهاز تشويش على الدرونات. صحيفة لوفيغارو الفرنسية وصفت هذا التوجه بأنه نسخة حديثة من وحدات "التنانين" التي كانت تجمع بين قدرات المشاة وخفة الفرسان.
تحول تكتيكي لا يقتصر على نقص السلاح
هذا التحول في الاستراتيجية لا يعكس فقط نقصا في المعدات الثقيلة لدى الجيش الروسي، بل يمثل توجها عسكريا مدروسا، بحسب تقارير تفيد بأن موسكو تخطط لشراء ما يصل إلى 200 ألف دراجة نارية صينية قبل نهاية عام 2025، إلى جانب آلاف المركبات الخفيفة مثل الدراجات الهوائية والكوادر.
تكتيك قديم برؤية جديدة
ويؤكد خبراء عسكريون لـ"إرم نيوز" أن الاستراتيجية الروسية الحالية تشهد إحياءً مدروسا لتكتيكات قديمة تعود إلى القرن السابع عشر، في مقدمتها "التنانين"، ولكن ضمن رؤية حديثة تتماشى مع متطلبات الحرب الهجينة المعاصرة.
ويتجلى هذا التوجه ليس فقط في توظيف دراجات نارية وقوات صغيرة الحركة، بل أيضا في استخدام الدواب كوسائل دعم لوجستي في مناطق وعرة أو قريبة من خطوط التماس يصعب فيها الاعتماد على الآليات الحديثة.
الدواب تعود إلى ساحات القتال
بحسب الدكتور آصف ملحم، مدير مركز JSM للأبحاث والدراسات، فإن روسيا عادت فعليا إلى استخدام الدواب في ساحات القتال، مؤكدا أن الأمر يتجاوز الرمزية أو الحنين إلى الماضي، ليكون استجابة مباشرة لضرورات ميدانية واقعية.
وأشار ملحم إلى أن الجيش الروسي يعتمد على الدواب في وحدتين عسكريتين بشكل أساسي: اللواء 55 للمشاة الميكانيكية الذي يستخدم الخيول المنغولية، واللواء 34 للمشاة الجبلية الذي يستعين بخيول "كراشاي" نسبة إلى إحدى جمهوريات شمال القوقاز. ويُعزى هذا الخيار إلى الطبيعة الجغرافية الصعبة، حيث تعيق المستنقعات والغابات والتحصينات الثقيلة حركة المركبات، بينما تظل الخيول والبغال خيارا أكثر مرونة لنقل الأسلحة والمؤن.
المنطقة الرمادية.. مسرح الدواب الجديد
وأضاف ملحم أن ما يُعرف بـ"المنطقة الرمادية" - وهي مساحة تمتد خمسة كيلومترات بين القوات الروسية والأوكرانية - تُعد مسرحا مكشوفا لطائرات الدرون؛ ما يجعل الدواب خيارا أكثر أمنا، وأقل قابلية للرصد والاستهداف مقارنةً بالمركبات أو الجنود.
وأكد أن القوات الروسية في الخطوط الخلفية تستعين بطيف واسع من الحيوانات يشمل الخيول والبغال والحمير، وحتى الكلاب، مشيرًا إلى أن كلب الراعي الألماني المعروف محليا بـ"أفيد شاركا" قادر على حمل حقيبة ثقيلة لمسافة تصل إلى 10 كيلومترات دون مرافقة؛ ما يجعله أداة لوجستية فعّالة يصعب تعويضها.
وشدد على أن هذه الأساليب ليست جديدة في العقيدة العسكرية الروسية، حيث سبق استخدامها في الحرب العالمية الثانية والحرب الأفغانية، حتى وإن لم تُصنّف ضمن مفاهيم القتال العصري بشكل رسمي.
تكتيك دون اسم رسمي
ورغم أن الإعلام الغربي أطلق على هذه الاستراتيجية مسمى "تكتيك التنانين"، فإن الجيش الروسي لا يعترف بها كمفهوم مستقل، بل يعتبرها مجرد جزء من أدوات القتال البديلة في البيئات المعقدة. كما لم تُوثّق أعداد الحيوانات المستخدمة بدقة، إلا أن المؤكد، بحسب ملحم، هو انتشارها على أكثر من جبهة بدافع الضرورة الميدانية لا الحنين التاريخي.
استراتيجية نفسية وميدانية متكاملة
من جانبه، يرى ديميتري بريجع، مدير وحدة الدراسات الروسية بمركز الدراسات العربية الأوراسية، أن موسكو لا تكتفي بتحديث ترسانتها أو مواكبة تقنيات الحرب الحديثة، بل تمضي أبعد من ذلك بإحياء تكتيكات قديمة ضمن فلسفة حرب هجينة تجمع بين الحركة السريعة والتأثير الرمزي والنفسي.
ووصف بريجع التحول الروسي بـ"استراتيجية الخيول الحديثة"، مستحضرًا مقارنة تعود إلى القرن السابع عشر، حين ظهرت وحدات "التنانين" كمزيج من المشاة والفرسان. واليوم، بحسب بريجع، تخلّت روسيا عن الخيول التقليدية، لكنها احتفظت بروحها، مستبدلة إياها بأدوات مثل الطائرات المسيّرة، قوات النخبة، ووحدات الحرب الإلكترونية.
وأضاف أن موسكو تتعامل مع ساحات القتال كما لو أنها رقعة شطرنج، حيث لا تتحرك بدافع عسكري بحت، بل وفق حسابات سياسية وإعلامية ونفسية متشابكة. وأشار إلى أن روسيا، على غرار "التنانين" الذين كانوا يفاجئون خصومهم بالظهور والاختفاء، تستخدم اليوم أسلحة التشويش المعلوماتي، والهجمات السيبرانية، وتتحكم في توقيت ومكان المواجهات.
الحرب كصراع على الرموز والذاكرة
واختتم بريجع حديثه بالتأكيد على أن روسيا لا تنظر إلى الحرب كمجرد مواجهة ميدانية، بل كصراع شامل على الرموز، والصور، والذاكرة الجمعية. وفي هذه الرؤية، لا تُقاس القوة بعدد الدبابات أو حجم السيطرة، بل بقدرة الجيش على التكيّف، والمباغتة، وتفكيك الخصم نفسيا قبل هزيمته عسكريا.
ويضيف: "في نهاية المطاف، لم يعد النصر حكرا على من يملك السلاح الأثقل، بل على من يفكّر بخفة فارس، لا بثقل جنرال" وفق تعبيره.