في الثامن من أغسطس، شهِدت واشنطن توقيع اتفاق إطارٍ تاريخي بين رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان ورئيس أذربيجان إلهام علييف، برعايةٍ أمريكية، قد يضع حدًّا لعقودٍ من النزاع الدموي بين الجارتين في جنوب القوقاز.
لكن ما يبدو إنجازًا دبلوماسيًّا لفتح صفحةٍ جديدة في العلاقات الثنائية، يُخفي وراءه لعبة نفوذٍ إقليمية معقدة، حيث تتقاطع مصالح واشنطن مع تأثير موسكو وطهران؛ ما يجعل السلام المحلي جزءًا من صراع أكبر على السيطرة والاستقرار في المنطقة.
وبحسب "فورين بوليسي"، فإن الاتفاقية تمثل محاولة أمريكية لإعادة رسم خريطة القوة في جنوب القوقاز، وهي منطقة لطالما كانت مجال نفوذ روسي وتركي، وتتم مراقبتها بدقة من قبل طهران؛ فالولايات المتحدة تسعى لتعزيز دورها الإستراتيجي عبر مشاريع استثمارية وأمنية، تشمل تطوير ممرات اقتصادية وبنية تحتية حيوية، مثل: كابل ألياف ضوئية عابر للكاسبيان، في محاولة لتقليل اعتماد الدول الإقليمية على موسكو وطهران.
لكن الطريق نحو تنفيذ الاتفاقية محفوف بالتحديات؛ فقضية الممر الحدودي بين أذربيجان ونخجوان، والتغييرات الدستورية المطلوبة في أرمينيا، وجهود التوصل إلى تسويةٍ نهائية لوضع لاجئي كاراباخ الأرمن، كلها مسائل حساسة قد تعرقل التنفيذ، ومن جهةٍ أخرى، تعتبر موسكو وطهران أيَّ توسُّعٍ أمريكي في المنطقة تهديدًا لمصالحهما التقليدية؛ ما قد يحفز مزيدًا من التوترات في القوقاز.
ويرى التقرير أن هناك تحدّيًا آخر ينبع من قرار واشنطن التدخل في المنطقة على نطاق أوسع؛ إذ يرى كلٌّ من روسيا وإيران، حتى الوجود التجاري الأمريكي هناك، غير ودي، ويبدو أن الضربات الروسية على أصول الطاقة المملوكة لأذربيجان في أوكرانيا، عقب حفل توقيع البيت الأبيض، تُشير إلى استياء الكرملين، كما أعلنت إيران أنها لن تتسامح مع الوجود الأمريكي في المنطقة.
في الوقت الحالي، أتاحت حرب روسيا المُنهكة في أوكرانيا للولايات المتحدة وقوى خارجية أخرى فرصة سانحة لتغيير الحقائق على الأرض في منطقة لا تزال موسكو تعتبرها فناءها الخلفي، ولا يزال المراقبون المحليون يشعرون بالقلق من فكرة أن طموحات روسيا للهيمنة الإقليمية لم تتلاش، وأن الكرملين، الذي يزداد عسكرةً وميلًا إلى الحرب، سيسعى إلى تصفية حساباته في القوقاز (وأماكن أخرى) بمجرد تحرر قواته من القتال في أوكرانيا.
وتجدر الإشارة إلى أنه وفي ظل هذه الديناميات، يُمثِّل الاتفاق اختبارًا لقدرة الولايات المتحدة على حماية مصالحها بينما تدعم السلام، وقدرة روسيا وإيران على الحفاظ على نفوذهما التقليدي دون تصعيد عسكري، لكن نجاح الاتفاقية يعتمد على التوازن الدقيق بين دعم التنمية المحلية، وحماية المدنيين، وضمان عدم انزلاق المنطقة إلى مواجهة بين القوى الكبرى.
الاتفاق يفتح أفقًا جديدًا للسلام، لكنه في الوقت نفسه يضع جنوب القوقاز على مفترق طرق، حيث يتقاطع الطموح الإقليمي للقوى الكبرى مع مصالح الدول المحلية، ويصبح السكان المدنيون، بشكل غير مباشر، جزءًا من لعبة النفوذ الكبرى التي ستحدد مستقبل المنطقة لعقود قادمة.