رأى باحثون ومحللون أن الحملات الانتخابية الجارية في العراق تجاوزت الخطوط الحمراء من حيث حدة الخطاب وتبادل الاتهامات، في مشهد يؤشر على أزمة ثقة تتفاقم داخل الطبقة السياسية، وسط مخاوف من انعكاس هذا الخطاب على استقرار العملية السياسية بعد الاقتراع المقرر في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
وتشهد الساحة العراقية تصاعداً غير مسبوق في استخدام السلاح الإعلامي، والتسريبات الصوتية، والتشهير المتبادل بين المرشحين، والكتل السياسية، وسط تحذيرات من تحول الحملات الانتخابية إلى ساحة لتصفية الحسابات، وتوجيه الرأي العام بعيداً عن البرامج السياسية، والخطط الإصلاحية.
في هذا السياق، أوضح مدير مؤسسة دستورناما للدراسات الديمقراطية والتنوع الاجتماعي، كاظم ياور، أن "هذه الانتخابات تختلف عن الدورات السابقة، إذ تنوعت فيها أساليب النيل من المرشحين، والكتل السياسية، وتفشت ظاهرة شراء الذمم، ومحاولات استمالة مرشحين داخل القوائم ذاتها”.
وأضاف لـ"إرم نيوز" أن “هذه الممارسات ستترك ارتدادات خطيرة على عقلية الناخب العراقي، خاصة الشباب الذين سيجدون أن السياسة فقدت أخلاقياتها الأساسية، وأن الفوز بات مرهوناً بالمال والنفوذ لا بالكفاءة والبرامج”.
وأشار إلى أن “نتائج الانتخابات قد تشهد خلافات داخل القوائم ذاتها بسبب غياب العدالة في توزيع الامتيازات، ما سيؤدي إلى انقسامات مبكرة، ومطالبات بتغيير القوانين، وربما حتى الدعوة لانتخابات جديدة".
وفي خضم هذه الأجواء المشحونة، تواصل القوى السياسية الكبرى حملاتها الدعائية مستخدمة أدوات إعلامية مكثفة على مواقع التواصل والمنصات الرقمية، حيث يتصدر المشهد خطاب قائم على التنافس الشخصي أكثر من البرامج الإصلاحية، فيما تزداد حدة الجدل بين الكتل الشيعية والسنية والكردية حول مفاهيم: “الهوية” و“التمثيل” و“الزعامة”.
من جانبه، أكد الباحث السياسي نجم القصاب أن تصاعد الحملات المتبادلة “ليس جديداً على الانتخابات العراقية، إذ تتكرر في كل دورة مظاهر التصعيد، والدعاية المفرطة، والتسقيط الإعلامي”.
وقال لـ"إرم نيوز" إن “هذه الحالة مؤقتة وآنـية، سرعان ما تنتهي بعد الانتخابات، لتبدأ مرحلة التحالفات، والاجتماعات، والصفقات السياسية، بغية تمرير الرئاسات الثلاث، وتقاسم النفوذ بين الكتل الكبرى”.
وتشير معطيات الميدان إلى أن بعض القوى تستثمر في الفوضى الإعلامية الحالية لتحقيق مكاسب انتخابية آنية، من خلال توجيه الجمهور عبر روايات مثيرة أو نشر تسجيلات مسرّبة ضد المنافسين.
وشهدت الساحة العراقية ، خلال الأسابيع الأخيرة، تسريب عددٍ من التسجيلات الصوتية التي طالت شخصيات سياسية بارزة، فضلاً عن نشر وثائق تتعلق بملفات فساد مالي وإداري، في إطار معارك التسقيط الانتخابي المتبادل بين الخصوم.
وساد في المقابل خطاب مكوناتي فاقع على المنصات الإعلامية وصفحات الدعاية، أعاد إلى الواجهة مفردات الانقسام الطائفي والعرقي، ما يؤشر على حجم التوتر داخل البيت السياسي، وساهم في تعميق الشكوك حول نزاهة العملية الانتخابية، وقدرتها على إنتاج بيئة تنافسية.
في المقابل، يربط أكاديميون وباحثون بين تصاعد لهجة الخطاب الدعائي، والانقسامات الاجتماعية العميقة في البلاد، حيث تحولت المنصات الانتخابية إلى منابر للاتهامات والشتائم، ما أفقد العملية الانتخابية طابعها الطبيعي.
وفي هذا السياق، قال الأكاديمي حسام ممدوح إن "لغة الخطاب الإعلامي السائدة في الحملات الانتخابية تؤشر على حالة من التقاطع والتنافس الحاد داخل الطبقة السياسية، ولا تعبّر عن أجواء ديمقراطية صحية”.
وأضاف لـ"إرم نيوز" أن “تبادل الاتهامات والتسريبات بين الكتل السياسية سيؤدي إلى عزوف الناخبين عن المشاركة، لأن الجميع بات متهماً بالفساد أو الفشل، ما يدفع المواطن إلى فقدان الثقة بالعملية الانتخابية برمتها".
وأوضح أن "الخطاب الدعائي الحالي يرسخ الانتماءات الطائفية والقومية على حساب البرامج السياسية، إذ تسعى بعض الأحزاب إلى استثارة الولاء المذهبي لدى جمهورها بدل طرح مشاريع وطنية جامعة، ما يهدد بعودة الانقسام الاجتماعي، ويصعّب تشكيل الحكومة المقبلة ضمن المهل الدستورية”.
وبيّن أن "العملية الانتخابية تحولت من ساحة تنافس ديمقراطي إلى ميدان لتصفية الحسابات بين القوى المتنازعة، ما قد يترك آثاراً سلبية بعيدة المدى على الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد".
ويرى متابعون أن تصاعد الخطاب العدائي في الحملات الانتخابية يكشف عن أزمة بنيوية متجذرة في المشهد السياسي العراقي منذ العام 2003، حيث فشلت القوى الحزبية في ترسيخ قواعد التنافس الديمقراطي القائم على البرامج، وبدلاً من ذلك اعتمدت على التحشيد المذهبي والترويج الشخصي، الأمر الذي زاد من تشتت الجمهور وعزوفه عن المشاركة.
ويجمع المراقبون على أن نتائج الانتخابات المقبلة، وإن كانت ستعيد تدوير القوى التقليدية ذاتها، فإنها ستفرز واقعاً سياسياً أكثر انقساماً، وربما تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التجاذب حول شرعية العملية السياسية برمتها، في بلد يعيش على إيقاع أزمات متراكمة لم تنجح أي انتخابات حتى الآن في معالجتها.