على هامش القمة الأوروبية في كوبنهاغن، صعّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لهجته معلنا أن الاتحاد الأوروبي بات في «مواجهة» مع روسيا، ومهددا بأن إسقاط الطائرات المسيّرة الروسية المتوغلة في المجال الجوي الأوروبي يظل خيارا مطروحا ضمن ما أسماه بـ«عقيدة الغموض الاستراتيجي».
ووفقاً للمراقبين، تعتبر هذه التصريحات وإن بدت محاولة لترسيخ صورة أوروبية أكثر صلابة، إلا أنها سرعان ما أثارت جدلاً حول ما إذا كانت تعكس بالفعل جدية في تعزيز الأمن الأوروبي، خاصة أنها مجرد خطاب سياسي للهروب من مأزق الأزمات الداخلية.
وعلى مدار الأيام الماضية، شهدت المواقف الأوروبية تصعيداً موازياً، حيث أعلنت بولندا مؤخرا إسقاط مسيرات يُشتبه بأنها روسية بمساعدة طائرات تابعة لحلف شمال الأطلسي، كما رصدت الدنمارك طائرات مسيرة مجهولة فوق 4 مطارات على أرضيها؛ ما أجبر السلطات على إغلاق أحدها لساعات.
هذه التطورات دعت قادة القارة العجوز إلى مناقشة إنشاء «جدار طائرات مسيرة» خلال قمة كوبنهاغن وذلك لحماية الدول الأوروبية، إلا أن تحذير الرئيس ماكرون أثار جدلا واسعا حول ما إذا كان يمثل اختبارا جديا للأمن الأوروبي أم مجرد محاولة لتعزيز موقف القارة العجوز في مواجهة موسكو.
ويرى المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، د. محمود الأفندي، أن الضجة الإعلامية والسياسية التي رافقت الحديث عن اختراق المسيرات الروسية لأجواء أوروبا سواء في بولندا أو إستونيا أو حتى فوق مطارات كوبنهاغن ليست إلا انعكاساً لأزمة داخلية يعيشها الاتحاد الأوروبي.
وأشار إلى أن تصريحات ماكرون وعدد من القادة الأوروبيين تخدم هدفين رئيسين: الأول، الحفاظ على التماسك الداخلي بعد تراجع الدور الأمريكي في الحرب الأوكرانية وما خلّفه من فراغ استراتيجي واقتصادي، والثاني، توجيه الرأي العام نحو «خطر خارجي» لصرف الأنظار عن التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة.
وأكد المحلل السياسي في حديث لـ«إرم نيوز»، أن إجراءات مثل إغلاق مطار ميونخ الألماني أمام حركة الطيران، ليست مجرد خطوات أمنية، بل وسيلة لتهيئة الرأي العام الأوروبي لقبول عسكرة متزايدة، وزيادة في الإنفاق الدفاعي على حساب دافعي الضرائب.
وبرأيه، فإن أوروبا تعيش تخبطا استراتيجيا منذ انسحاب واشنطن من المشهد القيادي، حيث بات الاتحاد الأوروبي يناقش الملفات العسكرية بدلًا من "الناتو"، في مؤشر على تراجع دور الحلف وربما بداية تفككه.
من جانبه، أكد كارزان حميد، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية، أن قمة كوبنهاغن الأخيرة أبرزت الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي بشأن كيفية التعامل مع الطائرات المسيّرة الروسية، معتبرا أن تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كانت الأكثر اتزانا مقارنة ببقية القادة المنقسمين بين دعاة التصعيد العسكري وتجنب المواجهة المباشرة مع موسكو.
وقال حميد في حديث لـ«إرم نيوز»، إن ماكرون طرح مقاربة تقوم على «إسقاط المسيّرات» واحتجاز ما سماه «أسطول الظل الروسي»، في محاولة لإضعاف الميزانية العسكرية الروسية دون الانجرار إلى حرب مفتوحة، لكنه لم يحقق نتائج ملموسة بسبب أزماته الداخلية واقتراب نهاية ولايته.
وأضاف أن هذه المقاربة تكشف سعي ماكرون لإيجاد أرضية مشتركة بين الأوروبيين ومنع التصعيد، رغم أن القارة لا تمتلك الاستعدادات الاقتصادية أو الشعبية لخوض مواجهة جديدة.
وأشار حميد إلى أن مواقف الدول متباينة؛ فألمانيا رغم دعمها العسكري لكييف، متحفظة على مشروع «جدار المسيرات»، بينما تسعى بولندا لتوسيع نطاق المواجهة مع روسيا، في حين يتمسك رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان بخيار السلام، مؤكدا أن أوروبا لا تملك القدرة على مواجهة موسكو «لا في الجو ولا على الأرض».
ولفت حميد إلى أن الغموض يحيط بمصدر المسيّرات التي تحلّق فوق مطارات أوروبية، متسائلًا عن سبب عدم إسقاطها أو كشف مساراتها فورا؛ ما يثير الشكوك حول «لعبة خفية» لإعادة هندسة سوق المسيّرات الأوروبية.
وشدد على أن تكلفة إسقاط المسيّرات أعلى كثيرا من قيمتها الحقيقية؛ ما يجعل الدافع الاقتصادي حاضرا بقوة في حسابات بروكسل.
وقال الخبير في الشؤون الأوروبية، إن خطة ماكرون تعكس محاولة لإظهار وحدة أوروبية في مواجهة روسيا، لكن الانقسامات العميقة بين باريس وبرلين ووارسو وبودابست تجعل من «تهديد المسيرات» اختبارا جديا لمستقبل الأمن الأوروبي أكثر من كونه سياسة متفقا عليها.
وعلى جانب آخر، قال ألكسندر زاسبكين، الدبلوماسي الروسي السابق، إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "يهرب إلى الأمام"، وذلك في محاولة للهروب من المشاكل الداخلية المتراكمة في بلاده.
وأوضح في تصريح لـ«إرم نيوز» أن ماكرون يسعى لتحويل انتباه المجتمع الفرنسي عن سياساته الفاشلة إلى ما يسمى بـ«العدو الخارجي»، وأن هذا النهج لا يقتصر على ماكرون وحده، بل يشمل عددا من زملائه من قادة أوروبا، مثل فريدريك ميرتس في ألمانيا، وكير ستارمر في بريطانيا، وغيرهما من السياسيين الذين وصفهم بأنهم "موظفون في خدمة العولمة الليبرالية العالمية، وأن هؤلاء القادة يواصلون التصعيد ويشجعون ما أسماه «الإرهاب الأوكراني».
وأكد زاسبكين أن روسيا تتعامل مع هذه السياسات من موقع المسؤولية، وتتابع هذه «المغامرات الغربية» بدقة، مشيرا إلى أن موسكو ستردّ عليها بشكل مناسب وفي الوقت الذي تختاره.
وشدد الدبلوماسي الروسي السابق، على أن محاولات تصدير الأزمات الداخلية إلى الخارج عبر اختلاق أعداء وهميين أو تضخيم التهديدات، لن تحل مشكلات الأوروبيين، بل ستقود إلى مزيد من التوتر وعدم الاستقرار في أوروبا والعالم.