يظل ملفّ المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة أحد أكثر الملفات تعقيداً في السياسة الإقليمية، حيث يواجه الطرفان جداراً من انعدام الثقة المتبادلة وغياب الضمانات الواقعية التي تؤمّن التزام كلّ طرف بما يتمّ الاتفاق عليه.
هذه الثغرات تحوِّل أيّ محاولة للحوار إلى مسار محفوف بالمخاطر، ما يفاقم مأزق التفاوض ويجعل من الصعب الوصول إلى حلٍّ مستدام للقضايا الجوهرية، سواء على صعيد البرنامج النووي الإيراني أو قضايا الأمن الإقليمي.
وفي هذا السياق، تبقى طهران مُصرّة على العودة إلى طاولة الحوار فقط على أساسٍ منصفٍ يحقّق مصالحها الوطنية ويحمي سيادتها، في حين تُواصل واشنطن سياساتها الضاغطة، ما يزيد من تعقيد المشهد ويُبقي المنطقة في حالة ترقّب دائم.
بينما ترفض إيران الدخول في مفاوضات شاملة وواسعة مع الولايات المتحدة تتعدّى الملف النووي وتشمل منظومة الصواريخ الباليستية المتطوّرة، وكذلك توقيف تخصيب اليورانيوم.
واعتبر سعدالله زارعي، المحلّل البارز في الشؤون الدولية، أن تصريحات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الأخيرة حول "السلام مع إيران ليست سوى فخٍّ سياسي، ومناورةٍ دعائية" تهدف إلى تحسين صورته، مؤكّداً أن سياسات واشنطن الفعلية لا تزال عدائية تجاه طهران.
وقال زارعي، في حديثه لـ"إرم نيوز"، إن "ترامب يحاول أن يقدّم نفسه كرجل سلام، لكن الواقع الميداني من أوكرانيا إلى غزة يثبت العكس"، موضحاً أن "الهدف الحقيقي لترامب ليس التوصّل إلى اتفاقٍ مع إيران، بل فرض الاستسلام عليها لصالح إسرائيل، وهو ما يعني الحرب والانقسام والفوضى في المنطقة".
وذكر زارعي أن "الحديث عن السلام مع إيران لن يكون ذا مصداقية ما دامت واشنطن متمسّكة بسياساتها العدائية ودعمها غير المحدود لإسرائيل"، مشدّداً على أن "المقاومة هي الخيار الواقعي الوحيد أمام طهران والمنطقة لمواجهة الضغوط الأمريكية" وفق تعبيره.
وأضاف: "لماذا لا تقدّم واشنطن ضماناتٍ حقيقية لطهران بهدف البدء في مفاوضاتٍ حقيقية تؤمّن مصالح الجميع؟ ما نشاهده أن الولايات المتحدة لا تريد تقديم أيّ تنازلاتٍ أو التفاوض على أساس (الجميع رابح)"، لافتاً إلى أن الأوضاع ستبقى على حالها ما لم تقدّم واشنطن ضماناتٍ حقيقية قابلة للتطبيق.
بدوره، قال رضا سالياني، الأمين العام لمنظمة العدالة والحرية وعضو هيئة رئاسة جبهة الإصلاحات في إيران، إن التفاوض ليس دليلاً على الضعف أو التراجع، بل هو استمرار للمقاومة من خلال مسار العقلانية والقوة.
وأضاف سالياني، لـ"إرم نيوز"، أن "إيران، في ظلّ الظروف الإقليمية والعالمية المعقّدة الراهنة، بحاجة إلى إعادة تصميمٍ لمسار المفاوضات وليس إلى تكرار الأنماط السابقة، وهذا الأمر سيبعث برسالةٍ من أجل تعزيز الثقة مع الولايات المتحدة".
وأشار سالياني إلى ضرورة مراجعة السياسة الخارجية الإيرانية قائلاً إنه "في وقتٍ تتغيّر فيه موازين القوى العالمية، فإن الحوار والتفاعل ليسا خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة وطنية لحماية المصالح العليا للدولة. فكلّ يومِ تأخيرٍ في بدء عملية التفاوض يعني فقدان فرصٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ جديدة".
وبيّن أنّ "الدرس المستفاد من التجارب السابقة ليس رفض التفاوض، بل ضرورة الانخراط في حوارٍ أكثر وعياً ونضجاً، ويجب بناء آلياتٍ تضمن التزامات الطرف المقابل، وفي الوقت نفسه إيجاد إجماعٍ داخلي. فالحوار الذي لا يقوم على ضماناتٍ تنفيذية لا يمكن الاعتماد عليه".
وأكّد سالياني أن القوة الحقيقية في عالم اليوم تكمن في القدرة على حلّ المشكلات، لا في استمرار الأزمات، قائلاً: "الدولة القوية ليست تلك التي يرفض الجميع الحديث معها، بل التي تستطيع إدارة التفاوض في ذروة الخلاف وتحويله إلى أداةٍ لتحقيق مصالحها الوطنية".
وعن احتمال التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة، قال سالياني: "الحوار المباشر مع واشنطن لا يعني الخضوع ولا التبعية، بل خطوة نحو الشفافية واستعادة زمام المبادرة بأيدينا. فالقنوات غير الرسمية لا تفيد سوى الوسطاء. يجب أن يجري الحوار المباشر من موقع العزّة والحكمة والمصلحة، وأن يُصمَّم على أساس الأهداف الاقتصادية والأمنية للبلاد".
وشدّد على أهمية التوافق الداخلي والشفافية مع الشعب، مضيفاً: "لا يمكن لأيّ مفاوضاتٍ أن تنجح دون قاعدةٍ اجتماعيةٍ داعمة. على الناس أن يدركوا أن الحوار يهدف إلى تحسين المعيشة وتحقيق الاستقرار، لا لخدمة مصالح فئوية. فكلّ اتفاقٍ لا يرتبط بالتنمية لن يدوم طويلاً".
وختم سالياني قائلاً إن "العودة إلى طاولة الحوار في هذه المرحلة تمثّل اختباراً لنضج السياسة الخارجية الإيرانية، وتؤكّد أن الشعب الإيراني لا يزال يختار طريق العقلانية للحفاظ على قوّته الوطنية".