في خضم تصاعد التوترات بين إيران وإسرائيل، عادت مخاوف أوكرانيا إلى الواجهة بشأن تراجع الاهتمام الدولي بمعركتها ضد روسيا، في ظل تحول بوصلة الأولويات الغربية نحو أزمات أكثر إلحاحا في الشرق الأوسط.
ولم تعد هذه المخاوف مجرد تحليلات أو تلميحات دبلوماسية، بل تجلّت بوضوح في تصريحات مباشرة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي عبّر بنبرة امتزجت فيها المرارة بالتحذير.
وقال زيلينسكي: "لا نطلب من أحد تقليل دعمه لإسرائيل، لكننا نأمل ألا يؤثر ذلك على المساعدات المقدمة لأوكرانيا"، محذرا من أن مثل هذه الأحداث سبق أن تكررت وأدت إلى تباطؤ في وصول الدعم إلى كييف.
وتتفاقم هذه المخاوف في ظل تراجع عسكري ميداني، حيث تتقدم القوات الروسية على أكثر من محور، بالتزامن مع إعلان وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث عن تقليص ميزانية المساعدات الأمنية لأوكرانيا في العام المالي الجديد، وهو ما وصفه زيلينسكي بأنه "مثبط للمعنويات".
ورغم إدراك كييف لخصوصية الصراع الإسرائيلي - الإيراني وأثره العميق على أمن الشرق الأوسط، إلا أن خطابها الأخير يبدو كأنه محاولة استباقية للحيلولة دون تكرار سيناريو تراجع الدعم في ظل اشتداد الأزمات الدولية الأخرى.
هل يخطف الصراع الإيراني - الإسرائيلي أنظار الغرب عن أوكرانيا؟
ويرى الخبراء أن هذا الصراع بات عاملا حاسما في إعادة ترتيب أولويات القوى الكبرى، وهو ما تجسّد في اعتراف زيلينسكي بتراجع الدعم الغربي، وسط توجه الموارد السياسية والعسكرية نحو الشرق الأوسط.
وأشار الخبراء في تصريحات لـ"إرم نيوز" إلى أن هذا التحول ليس عابرا، بل يعكس تغيرا جوهريا في ميزان القوى العالمي؛ ما يهدد بتحويل الحرب الأوكرانية إلى ملف ثانوي على الساحة الدولية، ويعكس محدودية قدرة التحالف الغربي على إدارة أكثر من صراع في الوقت ذاته.
وأضافوا أن أوكرانيا بدأت تفقد تدريجيا أوراقها التفاوضية، في الوقت الذي يعزز فيه الجيش الروسي تفوقه الميداني؛ ما يضع كييف أمام أزمة استراتيجية نتيجة تبدل الأولويات الدولية.
وأكدوا أن إسرائيل باتت تمثل أولوية سياسية وعسكرية للغرب، وأن استمرار التصعيد بين طهران وتل أبيب قد يؤدي إلى تقليص الدعم الأمريكي والأوروبي لأوكرانيا؛ ما ينذر بتفكك الموقف الدولي الداعم لكييف، ويضع زيلينسكي في مأزق وجودي في ظل تضاؤل أدوات الحل والتأثير.
تحول في التوازنات الدولية
وقال ديميتري بريجع، مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، إن اعتراف زيلينسكي الأخير بعجز بلاده عن مواجهة الهجمات الروسية يوضح حجم التحول في أولويات القوى الكبرى، ويثير تساؤلات جوهرية حول موقع أوكرانيا في المعادلة الدولية، في ظل تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل.
وأشار بريجع إلى أن المواجهة بين طهران وتل أبيب تجاوزت الطابع الإقليمي، وتحولت إلى صراع دولي يستقطب الموارد والدعم السياسي والعسكري الذي كان موجّها سابقا لكييف، مضيفا أن هذا الصراع يسهم في إعادة رسم خريطة الأزمات العالمية، ويهدد بتهميش القضية الأوكرانية.
وأوضح أن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، يواجه اليوم معادلة جيوسياسية معقدة، تتطلب الاختيار بين استمرار دعم أوكرانيا أو توجيه هذا الدعم إلى إسرائيل في مواجهة إيران، مؤكّدا أن هذا التحول لم يعد مجرد احتمال، بل واقع ملموس يتجلى في تباطؤ وصول المساعدات وانخفاض الزخم الإعلامي والسياسي بشأن الملف الأوكراني.
وأضاف أن أوكرانيا باتت تدرك حجم التحديات، في ظل انشغال العالم بحرب غزة، والتهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز، وتفاقم "حرب الظل" بين الموساد والحرس الثوري الإيراني؛ ما أدى إلى تراجع الدعم السياسي والعسكري الموجه إلى كييف، بالتزامن مع تقدم روسي على عدة جبهات.
وشدد بريجع على أن تصريحات زيلينسكي يجب أن تُفهم كإنذار استراتيجي يعكس التغيرات العميقة في التوازنات الدولية، مؤكدا أن الصراع الإيراني - الإسرائيلي يضعف تماسك التحالف الغربي، الذي كان موحدا في بدايات الحرب الأوكرانية، لكنه بات اليوم يعاني من تصدعات نتيجة تعدد الجبهات والاستنزاف السياسي والاقتصادي.
وأوضح أن الغرب لم يعد قادرا على خوض حربين بالوكالة في آن واحد دون تكبد خسائر استراتيجية كبيرة، معتبرا أن الصراع في الشرق الأوسط بات متغيرا محوريا يعيد تشكيل موازين القوى العالمية ويُضعف موقف أوكرانيا سواء على مستوى التفاوض أو الدفاع.
الخسارة الإعلامية والسياسية لأوكرانيا
من جانبه، قال كارزان حميد، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية، إن الشرق الأوسط شهد منذ اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية سلسلة من الاشتباكات الجانبية، أبرزها خلال أحداث "طوفان الأقصى" والهجمات على جنوب لبنان، ويأتي الصراع الحالي بين إسرائيل وإيران في السياق التصعيدي ذاته.
وأضاف في تصريحات لـ"إرم نيوز" أن زيلينسكي أعرب مؤخرا عن أمله في ألا تؤثر هذه النزاعات الإقليمية على مسار الحرب في بلاده، في وقت يدرك فيه أن الولايات المتحدة تمنح أولوية قصوى لدعم إسرائيل عسكريا، حتى ولو كان ذلك على حساب أوكرانيا.
وأشار إلى أن زيلينسكي يسعى جاهدا للبقاء في دائرة الضوء إعلاميا وسياسيا، خوفا من أن تتوارى قضيته كما حدث في ملفات أخرى كالسودان، وهو ما قد يمنح موسكو فرصة لتقسيم أوكرانيا بعيدا عن الرقابة والضغط الدولي.
وأوضح أن اندلاع مواجهة مباشرة بين طهران وتل أبيب كان متوقعا، خصوصا في ظل حكومة بنيامين نتنياهو، التي تخوض صراعات طويلة الأمد لتعزيز بقائها السياسي وإفشال أي مساعٍ للسلام، معتبرا أن إسرائيل نجحت في إعادة الاصطفاف الدولي لصالحها.
وأكد حميد أن الوضع في أوكرانيا يختلف جوهريا عن إسرائيل، حيث فشلت كييف في صد التقدم الروسي رغم الدعم الدولي، بل إن روسيا تجاوزت "الخطوط الحمراء" باستهدافها مواقع نووية أوكرانية، في ظل علم مسبق من الغرب.
وأشار إلى أن زيلينسكي يخسر أوراقه التفاوضية يوما بعد يوم، مع تغير شروط التفاوض بشكل سلبي لصالح موسكو، مؤكدا أن استمرار الحرب بين إسرائيل وإيران سيؤثر حتمًا على حجم الدعم الغربي لكييف، في ظل تفضيل بعض القوى الأوروبية توجيه الموارد لإسرائيل.
وشدد على أن أوكرانيا تمثل مشروعا استراتيجيا غير مضمون العواقب، وقد يُتخلى عنه في حال تفاقم الصراع في الشرق الأوسط، مؤكدا أن زيلينسكي يفتقر حاليا لأدوات الحل السياسي، وقد يجد نفسه خارج المعادلة لإنقاذ ما تبقى من الدولة الأوكرانية.
وختم حميد بالقول إن ميزان القوى يميل بشكل واضح لصالح روسيا، نتيجة تحضيراتها الطويلة منذ عام 2014، في مقابل اعتماد أوكرانيا شبه الكامل على وعود غربية غير مضمونة، مضيفًا أن سلوك زيلينسكي يشبه إلى حد كبير ما تقوم به إسرائيل من "تهور غير محسوب"، في وقت تملك فيه إيران ما وصفه بـ"الصبر الاستراتيجي" الذي تفتقر إليه كييف.