تعيش فرنسا وألمانيا، وهما أكبر اقتصادين في الاتحاد الأوروبي، مواجهة سياسية واجتماعية غير مسبوقة بين الأجيال، مع تفاقم الضغوط على أنظمة التقاعد في البلدين.
ففي باريس وبرلين، بدأ جيل جديد من السياسيين الشباب يوجّه تحذيرات صريحة إلى المتقاعدين، مؤكدين أن أنظمة التقاعد تقترب من لحظة الانهيار ما لم يتحمّل جيل الطفرة السكانية جانبا من تكلفة إنقاذها. هذه الرسائل تعكس تحوّلا لافتا في الخطاب السياسي، بعدما كان الاقتراب من امتيازات كبار السن يعد خطاً أحمر يصعب تجاوزه.
وتجد الحكومتان نفسيهما محصورتين بين واقع ديموغرافي قاس يتمثل في الارتفاع السريع لأعداد المتقاعدين مقابل انخفاض عدد المساهمين الجدد في سوق العمل، وبين ضغوط مالية خانقة تزيد فيها تكاليف التقاعد فيما يتباطأ النمو الاقتصادي وتتجمد الأجور.
هذا التغير العميق في التوازن السكاني جعل الأجيال الشابة تشعر بأن فرص الاستقرار التي حظي بها آباؤهم – من القدرة على شراء المنازل إلى بناء المسارات المهنية – باتت بعيدة المنال، خصوصاً مع الارتفاع الكبير في أسعار العقارات وفاتورة الضرائب والديون العامة المتصاعدة.
ويعود الجدل إلى جيل "البيبي بومرز"، وهو الجيل المولود بين عامي 1946 و1964 خلال فترة الازدهار التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. هذا الجيل الذي استفاد من طفرة اقتصادية غير مسبوقة يشكّل اليوم الكتلة الأكبر من المتقاعدين في أوروبا، ما يضع الأنظمة الاجتماعية تحت عبء متزايد يصعب على الأجيال العاملة تحمّله وحدها.
في ألمانيا يطالب نواب شباب، من بينهم يوهانس وينكل البالغ من العمر 34 عاماً، بقدر أكبر من "العدالة بين الأجيال"، فيما يدعو النائب الفرنسي غيوم كاسباريان، 38 عاماً، إلى إعادة النظر جذرياً في النظام القائم على دفع الجيل العامل لمعاشات الجيل المتقاعد.
ورغم جرأة هذه الطروحات، إلا أن استهداف المتقاعدين يظل خطوة محفوفة بالمخاطر سياسياً، فهم يشكّلون قاعدة انتخابية ثابتة وواسعة تميل عادة إلى أحزاب الوسط والمحافظين، وقد لعبوا دوراً أساسياً في فوز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وإيصال فريدريش ميرتس إلى المستشارية في ألمانيا.
وفي فرنسا يحتدم النقاش حول خطة حكومية لتجميد تعديلات التضخم على المعاشات خلال العام المقبل في محاولة لخفض العجز وتقليص الإنفاق العام.
وقد حذرت وزيرة الميزانية أميلي دو مونشالان من "إشعال حرب بين الأجيال"، إلا أن مراقبين يرون أن الخيارات أمام الحكومة تزداد ضيقاً.
أما في ألمانيا، فيقود المحافظون الشباب تمرّدا داخل حزب ميرتس اعتراضا على إصلاحات يعتبرونها سخية أكثر مما ينبغي للمتقاعدين، وقد حذّر اقتصاديون بارزون في مقال نشر بصحيفة "هاندلسبلات" من أن هذه السياسات ستُلقي بالعبء الأكبر على الجيل الأصغر.
ويكشف الرأي العام في البلدين عن انقسام حاد بين الأجيال. فالكثير من المتقاعدين يعارضون أي مساس بالمعاشات الحالية، بينما يبدي نصف الشباب تقريباً دعماً لإصلاحات تقلّص الامتيازات التي يستفيد منها كبار السن.
وتشير استطلاعات فرنسية إلى أن العاملين اليوم يعتقدون أن المتقاعدين الحاليين يتمتعون بوضع أفضل؛ لأنهم غادروا سوق العمل في توقيت أكثر ملاءمة قبل اشتداد الأزمات الاقتصادية والمعيشية.
ورغم التشابه الكبير في التحديات، فإن النظامين الفرنسي والألماني يختلفان جوهرياً في نتائج سياساتهما. فالمعاشات الفرنسية أكثر سخاء، ما ساهم في خفض معدل الفقر بين كبار السن.
وعلى النقيض، يعاني المتقاعدون في ألمانيا من أوضاع مالية أكثر هشاشة بسبب إصلاحات سابقة قلّصت المزايا، وهو ما جعل الفقر بين من هم فوق الخامسة والستين أعلى من الفئات الأصغر سناً.
ويرى الخبير الاقتصادي الفرنسي أرنو لوشوفالييه أن تحقيق مساواة كاملة بين الأجيال في أنظمة التقاعد ضرب من المستحيل؛ لأن الظروف الاقتصادية والديموغرافية تختلف جذرياً بين كل جيل وآخر.
وبرأيه، فإن الفكرة القائلة بأن كل جيل يمكن أن يحصل على العائد ذاته من نظام التقاعد هي "وهم غير قابل للتحقق"، ما يجعل النقاش الدائر اليوم جزءاً من معركة أوسع لإعادة تشكيل العقد الاجتماعي في أوروبا.