في تصعيد فرنسي جديد ضدّ موسكو، وقّعت باريس "إعلان نوايا" مع كييف لتزويدها بـ 100 طائرة مقاتلة فرنسية الصنع من طراز "رافال" بالإضافة إلى أنظمة دفاع جوي وطائرات بلا طيار.
ويؤكد خبراء عسكريون محدودية "رافال" في تغيير موازين الصراع القائم بين روسيا وأوكرانيا، حيث أثبتت فشلها العسكريّ الذّريع خلال المواجهة الباكستانية الهندية الأخيرة.
ووقّع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في قاعدة فيلاكوبلاي الجوية جنوب غرب باريس، خطاب نوايا مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن عملية الشراء، على الرغم من عدم الكشف عن التفاصيل الدقيقة للصفقة.
وهذه الزيارة التاسعة لزيلينسكي إلى باريس منذ فبراير شباط 2022، حيث أصبحت فرنسا ركيزة أساسية للدعم الغربي لأوكرانيا، لا سيما في ظل عدم القدرة على التنبؤ بإمدادات الأسلحة الأمريكية.
وجاء بلاغ الإيليزيه متحفظا جدّا؛ ما أثار العديد من تساؤلات الصحفيين والمتابعين للشأن الفرنسي، حيث إنّه لم يكشف عن القيمة المالية الإجمالية للصفقة أو عن مواعيد تسليم الطائرات، ودخولها الفعلي للخدمة.
كما لم يتحدث البلاغ عن قيمة التصنيع التي ستتكفل بها فرنسا، في وقت تعاني فيه باريس من أزمات اقتصادية ومالية حساسة وحرجة، أفضت إلى عدم المصادقة على موازنة سنة 2025، ويبدو أنّ موازنة السنة القادمة (2026) لن تكون أفضل حالا.
ولم تكن المصادر الأوكرانية أقل تكتما من المصادر الفرنسية، حيث إنّها لم تفصح عن طريقة سداد الصفقة، وما إذا كانت ستسدد عبر الأصول المالية الروسية المجمدة في البنوك البلجيكية أم أنّها ستسدد عبر ديون أوروبية لكييف، إلى حين انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية؟
وفي مقابل هذا التحفظ حيال تفاصيل الصفقة وحيثياتها، أطنبت كييف وباريس في الإشادة بـ"الصفقة"؛ إذ وصفتاها بـ"الاتفاق التاريخي" الذي سيعزز المنظومة الدفاعية الأوكرانية.
وفي الوقت الذي وصف فيه الرئيس زيلينسكي الاتفاق بـ"التاريخي" الذي ينص على تعزيز كبير لقدرات كييف في الطيران القتالي والدفاع الجوي، ركزت باريس على تثمين صناعاتها العسكرية الفرنسية وعلى اعتبار "رافال" علامة تميز لها.
وقالت الرئاسة الفرنسية إن الاتفاق الذي يمتد على أفق يقارب 10 سنوات، يفتح الباب أمام عقود مستقبلية لاقتناء أوكرانيا معدات دفاعية فرنسية تشمل نحو 100 "طائرة رافال" مع منظومتها التسليحية ومنظومات أخرى من بينها نظام الدفاع الجوي SAMP-T من الجيل الجديد قيد التطوير وأنظمة رادار وطائرات مسيرة، وأنه يضع "التميز الفرنسي" في الصناعات الدفاعية في خدمة الدفاع عن أوكرانيا وعن أجوائها في مواجهة "العدوان الروسي"، حسب التعبير الفرنسي.
ويمثّل المجال الجوي هاجسا أمنيا وعسكريا كبيرا لدى أوكرانيا، التي ترجع تقدم القوات الروسية البرية في الكثير من النقاط الحساسة واقترابها من الحسم العسكري في الكثير من الأقاليم المهمة والاستراتيجية (سواء من حيث الموقع أو من حيث الموارد التعدينية والثروات الطبيعية الكبيرة)، إلى القدرات الجوية الهائلة للجيش الروسي.
وتعتبر التقديرات العسكرية الأوكرانية أنّ تأمين التوازن في الحرب، كمرحلة أولى، قبل قلب الموازين العسكرية كمرحلة ثانية، ينطلق من استدراك الفارق التقني والاستخباراتي واللوجستي القائم بين الجيشين.
وبناء على هذه التقديرات، يمكن تفسير الإجراءات الأوكرانية المتخذة مؤخرا، حيث وقع الرئيس الأوكراني الشهر الماضي "رسالة إعلان نوايا" لشراء ما بين 100 إلى 150 مقاتلة سويدية من طراز "غرين".
كما تترقب كييف أن تتسلم من فرنسا صواريخ مضادة للطائرات المقاتلة من طراز "أستر" التي تطلق من منظومة "ستامب تي"، وطائرات مقاتلة من طراز "ميراج 2000"، بعد أن تسلمت في وقت سابق 3 طائرات من أصل 6 تلقت وعودا بالحصول عليها.
كما تخطط كييف لاستخدام نحو 5 ملايين مسيرة انقضاضية، للتصدي لمسيرات "شاهد" الإيرانية التي تستعملها روسيا في الإغارة على المواقع العسكرية والمدنية الأوكرانية والتي نجحت إلى حدّ اللحظة في تدمير نحو 70 بالمئة من البنية التحتية للمعدات العسكرية والأمنية الأوكرانية.
واختلفت تقديرات الخبراء العسكريين حول نجاعة مقاتلات "رافال" وقدرتها على تغيير موازين القوى الجوية في المشهد الروسي الأوكراني. ولئن ذهبت بعض القراءات إلى اعتبارها تحولا نوعيا في مسار المعركة فإنّ غالبية القراءات قللت من قدراتها الحربية، حيث اتضحت هشاشتها في الميدان الباكستاني عندما كانت "رافال" القوة الجوية الضاربة في الجيش الهندي.
وفي السياق التنويهي والتثميني للصفقة، أشار بعض الخبراء إلى أنّ "رافال" من شأنها أن تكون منصة هجومية متقدمة قادرة على التأثير في العمق الروسي واستهداف المواقع والمدن الاستراتيجية وعلى رأسها العاصمة الروسية موسكو.
ووفقا لتقديراتهم، فإنّ دخول "رافال" الخدمة سيحد من الاكتساح الجوي الروسي فوق الأجواء الأوكرانية، لا سيما أنّها قادرة على حمل صواريخ بعيدة المدى على غرار "ستورم سادو"، وهي صواريخ بإمكانها ضرب أهداف حساسة داخل العمق الروسي.
في المقابل، يشكك خبراء عسكريون آخرون كثيرا في الأدوار المفترضة والمنتظرة من "رافال" في المشهد الحربي القائم.
ويبني هؤلاء الخبراء تصوراتهم على 3 معطيات أساسية، وهي الكفاءات التصنيعية الروسية، والتشويش، و"التجربة الهندية".
أما الكفاءات التصنيعية الروسية، فتتمثل في قدرة موسكو على صناعة الأسلحة الموازية والرديفة، للأسلحة التي تدخلها كييف إلى ميدان الصراع، وقد أثبتت موسكو أنّ التصنيع التسليحي لم يتوقف يوما، وما قدرتها على تصنيع سلاح ثقيل يشتغل بالطاقة النووية إلا دليل على هذه "المواكبة" الروسية الدقيقة لواقع التصنيع.
في ما يخص "التشويش"، فإنّ التفوق الجوي الروسي لا يعود فقط للقدرات التدميرية ولا للمسيرات الانقضاضية، وإنما أيضا إلى القدرات التشويشية الروسية التي أثبتت فاعليتها الكبيرة ضدّ الطائرات المسيرة الأوكرانية وضدّ المقاتلات الحربية، وأثبتت نجاعتها على الامتداد خارج المجالات الجوية الأوكرانية.
أما في ما يخص التجربة الهندية المريرة بالنسبة لـ"رافال" والتي تعتبر بمثابة النكسة الحقيقية لـ"فخر الصناعات الجوية الفرنسية"، فإنّ الشواهد أثبتت قدرة باكستان على إسقاط 3 مقاتلات "رافال" تسلمتها الهند من فرنسا خلال الفترة الممتدة ما بين 2020 و2022، وقد اختارت شركة "دافو أفياسيون" الشركة المصنعة لـ"رافال" الصمت حيال هذه الحقائق.
ويشير الخبراء في هذا المفصل المهم إلى أنّ "رافال" تم إسقاطها عبر صاروخ "جو-جو" صيني من طراز PL-15 موجه عبر الرادار النشط، أطلقته مقاتلة صينية من طراز J-10C، حيث عقدت إسلام أباد مع الحكومة الصينية عام 2022 صفقة شراء هذه المقاتلات، كرد مباشر على "رافال" الفرنسية.
ومن غير المستبعد أن تكون المقاتلات الصينية موجودة سلفا في الترسانة العسكرية الروسية، أو أن يتم التزود بها خلال المرحلة القادمة، إن لم تكن المنظومة التصنيعية الروسية قد ابتكرت مثيلاتها.
وبغض النظر عن الاختلاف الموجود في وجهات النظر العسكرية، فإن التقديرات كافة لا تختلف حول الصعوبات اللوجستية الجمة التي قد تحول دون وصول مقاتلات "رافال" إلى أوكرانيا، ودون دخولها الخدمة الحربية أصلا.
ويؤكد خبراء عسكريون فرنسيون أنّ القدرات الصناعية الحالية في حدودها القصوى لا تسمح بإنتاج أكثر من 3 مقاتلات سنويا، وبالتالي فتسليم الدفعة الأولى من المقاتلات المتفق عليها، لن يكون قبل 2029.
في السياق نفسه، تشير مصادر إعلامية فرنسية إلى أنّ إرسال مقاتلات "رافال" قد يكلف باريس 15 مليار يورو، وحيث إنّ مشكلة تمويل هذه الإمدادات لم تحل بعد، فإنّ إقناع البرلمان المنقسم على نفسه بتخصيص هذا المبلغ في ظل عجز الموازنات والدين العام الاستثنائي الذي يناهز 3.5 تريليون يورو، أمر صعب جدّا.
في المفصل نفسه، تؤكد مصادر عسكرية أنّ إدخال هذه المقاتلات إلى الخدمة وإدراجها ضمن منظومة الدفاع الجوي الأوكراني يتطلبان حيزا زمنيا كبيرا، لا يقل عن السنة وقد يستغرق سنة ونصف السنة، هذا بالإضافة إلى ضرورة توفير مدارج صالحة للاستعمال، وهو أمر متعذر حاليا في ظلّ استهداف الجيش الروسي لغالبية المدارج وتدميره للمطارات العسكرية الأوكرانية.