شهدت فرنسا، الخميس، واحدة من أكبر موجات التعبئة الاجتماعية منذ احتجاجات إصلاح نظام التقاعد عام 2023.
ونزل مئات الآلاف إلى الشوارع تلبيةً لدعوة التنسيقية النقابية المشتركة، في احتجاجات عمت أكثر من 250 مدينة فرنسية، تحت شعار واحد: رفض سياسات التقشف والمطالبة بعدالة اجتماعية وضريبية أكبر.
احتجاجات متجددة بعد "فلنغلق كل شيء"
تأتي هذه التعبئة بعد ثمانية أيام فقط من حركة "Bloquons tout" فلنغلق كل شيء، التي جمعت نحو 200 ألف شخص في مختلف أنحاء البلاد يوم 10 سبتمبر، بحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية.
وما جعل يوم 18 سبتمبر بمثابة الجولة الثانية من الحراك الاجتماعي، لكنها هذه المرة بقيادة النقابات التي نجحت في توحيد صفوفها بعد أشهر من الهدوء.
اللافت أن هذه التعبئة هي الأولى من نوعها منذ معركة التقاعد التي قسمت الشارع الفرنسي عام 2023، وهو ما يشير إلى عودة النقابات بقوة إلى المشهد. كما أنها شكّلت اختباراً مبكراً لرئيس الوزراء الجديد سيباستيان لوكورنو، الذي لم يمضِ أسبوعاً على تعيينه حتى واجه تحدياً اجتماعياً بهذا الحجم.
وأظهرت الأرقام حجم المشاركة الكبير، وإن تباينت التقديرات؛ فقد أعلنت وزارة الداخلية أن عدد المتظاهرين تجاوز 500 ألف شخص، بينما تحدثت نقابة CGT عن أكثر من مليون مشارك.
في المدن الكبرى، جاءت الأعداد متفاوتة، باريس: عشرات الآلاف شاركوا في مسيرات وسط إجراءات أمنية مشدد.
وفي مرسيليا، فقد تجمع ما بين 15 ألفاً و120 ألف متظاهر وفق المصادر المختلفة. وفي ليون، تظاهر من 14 ألفاً حتى 20 ألفاً.
وتظاهر في تولوز ما بين 18 ألفاً و40 ألفاً، وفي بوردو: بين 8,800 و35 ألفاً، وفي لاروشيل: من 1,800 حتى 3,000 مشارك.
ومهما اختلفت الأرقام، إلا أن المؤكد أن النقابات نجحت في حشد قوة اجتماعية واسعة أعادت إلى الأذهان ذكريات كبرى التحركات الشعبية.
شعارات تعبّر عن الغضب والقطيعة
ولم تقتصر التعبئة على الحشود فقط، بل حملت اللافتات واللافتات الإلكترونية رسائل مباشرة للحكومة: "فلنفرض الضرائب على الأثرياء"، و"إلغاء الامتيازات"، و"ضريبة زوكمان الآن"، و"لنفرغ جيوب الأغنياء لسد عجز الضمان الاجتماعي".
وتُظهر هذه الشعارات اتجاهاً واضحاً نحو المطالبة بإصلاح ضريبي يعيد توزيع الثروة بشكل أكثر عدلاً، في وقت يشعر فيه كثير من الفرنسيين أن السياسات الاقتصادية الحالية تعمق الفوارق الاجتماعية وتثقل كاهل الطبقات الوسطى والفقيرة.
تعبئة سلمية رغم التوترات
ورغم الحجم الكبير للتجمعات، مرت معظم المظاهرات في أجواء هادئة. إلا أن باريس شهدت بعض التوترات بين المحتجين وقوات الأمن.
وزارة الداخلية، التي نشرت أكثر من 80 ألف شرطي ودركي لتأمين المظاهرات، أعلنت توقيف 181 شخصاً عبر البلاد، بينهم 31 في العاصمة، بحسب صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية.
وهذا الانتشار الأمني الكثيف عكس إدراك الحكومة لخطورة الوضع، وخشيتها من انزلاق التحركات إلى أعمال عنف كتلك التي عرفتها البلاد خلال أزمة "السترات الصفراء" عام 2018.
ومن الناحية السياسية، يمثل يوم 18 سبتمبر بداية اختبار صعب للحكومة الفرنسية.
فالنقابات أظهرت قدرتها على الحشد وإعادة تعبئة الشارع بسرعة، في وقت لم يلتقط فيه رئيس الوزراء الجديد سيباستيان لوكورنو أنفاسه بعد.
لوكورنو يواصل مشاوراته لإعداد ميزانية 2026، وسط تهديد بالرقابة.
من جانبها، قالت صحيفة "لاديبيش" الفرنسية، إنه في الوقت الذي شهدت فيه فرنسا، يوم الخميس، تعبئة نقابية واسعة وموحدة ضد إجراءات التقشف، واصل رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو مشاوراته لإعداد مشروع ميزانية 2026، المهدد بالرقابة البرلمانية.
وأضافت أنه بينما طرح إيريك سيوتي مقترح ميزانية بديلة تقوم على 120 مليار يورو من التخفيضات، يسعى لوكورنو إلى إيجاد توازن صعب بين المطالب الاجتماعية، وضغوط اليمين، وتزايد تشكك الفرنسيين.
سيوتي يقترح 120 مليار يورو من التخفيضات
وبعد سلسلة لقاءات شملت ممثلي الكتلة الماكرونية وحلفاءها من الجمهوريين، إضافة إلى أحزاب الوسط والمستقلين وبعض المجموعات البرلمانية مثل "ليوت" (ائتلاف اليمين والوسط)، وكذلك اليسار واليمين المتطرف، استقبل لوكورنو، يوم أمس، إيريك سيوتي، زعيم اتحاد اليمين من أجل الجمهورية (UDR)، المتحالف مع حزب التجمع الوطني.
وقدم سيوتي خطة بديلة تقوم على تخفيضات بقيمة 120 مليار يورو، تشمل الهجرة، السياسات الاجتماعية، ومساهمة فرنسا في ميزانية الاتحاد الأوروبي.
وهو يستلهم في ذلك تجربة الرئيس الأرجنتيني المتشدد خافيير ميلي، الذي انتُخب على أساس وعود بخفض جذري للإنفاق العام.
وهذه المقترحات تفوق بثلاثة أضعاف التخفيضات المدرجة في ميزانية رئيس الوزراء السابق فرانسوا بايرو (44 مليار يورو)، التي أسقطها البرلمان في 8 سبتمبر.
وتشمل خطة سيوتي: إنهاء "التجاوزات المرتبطة بالهجرة"، وتحويل المساعدات الطبية الحكومية (AME) إلى نظام طارئ محدود، وتقليص مساهمة فرنسا في ميزانية الاتحاد الأوروبي والمساعدات الإنمائية، وإصلاح شامل للسياسات الاجتماعية، وتحديث نظام التأمين ضد البطالة والتدريب المهني.
كما وضع سيوتي "خطوطاً حمراء غير قابلة للتفاوض"، أبرزها رفض أي زيادة في الضرائب، أو خفض قيمة المعاشات، أو تقليص تعويضات الصحة والأدوية.
انفتاح محتمل نحو النقابات العمالية لتليين موقف الاشتراكيين
في أعقاب يوم التعبئة النقابية، الذي وصفته الأمينة العامة لـ CFDT، ماريليز ليون، بأنه "تحذير" لرئيس الوزراء، بات لوكورنو أمام اختبار تقديم مقترحات فعلية تُجسد "القطيعة" التي وعد بها عند تسلمه السلطة من بايرو.
مقارنة مع محطات سابقة
يذكّر هذا الحراك كثيرين بأحداث السترات الصفراء عام 2018، التي بدأت بتحركات مطلبية حول أسعار الوقود ثم تحولت إلى حركة غضب واسعة ضد السياسات الاقتصادية للحكومة.
كما يشبه من حيث الحجم زخم الاحتجاجات ضد إصلاح التقاعد عام 2023، التي أنهكت حكومة ماكرون وأضعفت شعبيتها.
والفرق هذه المرة أن النقابات تقف في الصفوف الأمامية، ما يمنح الاحتجاجات طابعاً منظماً وأكثر قدرة على الاستمرار، على عكس حركات الغضب العفوية.