لم تقتصر الجهود الدبلوماسية في سياق الحرب المستمرة منذ عام 2022 بين روسيا وأوكرانيا، على عواصم أوروبا التقليدية مثل بروكسل أو جولات سابقة في جنيف وبرلين، بل انتقلت إلى ميامي في ولاية فلوريدا في الولايات المتحدة.
جاءت الجولة الأخيرة من المباحثات الروسية الأوكرانية في ميامي بمبادرة من الإدارة الأمريكية التي طرحت خطة سلام تضم نقاطًا أساسية تهدف إلى إنهاء الصراع.
ووفقاً للمراقبين، يأتي اختيار ميامي باعتبارها أرضًا محايدة لعدة اعتبارات، أبرزها شعور الطرفين بالتحرر من الضغوط السياسية التي تعقّد الجولات التفاوضية.
ويعكس نقل المفاوضات إلى ميامي رغبة الولايات المتحدة في التقليل من التأثير الأوروبي المباشر على صياغة الشروط النهائية للتسوية، وهو ما بدا واضحًا في مراحل سابقة من الحوار حول الخطة الأمريكية، التي واجهت تحفظات أوروبية وأوكرانية لإعادة صياغتها أو تعديلها.
وفي هذا الإطار قال أستاذ العلوم السياسية بجامعة موسكو الدكتور نزار بوش، إن الاتصالات بين الأمريكيين والروس بشأن مفاوضات إنهاء النزاع في أوكرانيا لا تزال قائمة، في وقت يُصعد فيه الأوروبيون من لهجتهم المتشددة تجاه روسيا، بما يسهم في تعطيل أي تقدم محتمل في مسار هذه المفاوضات.
وأكد بوش لـ"إرم نيوز" أن ما جرى في اجتماع برلين المعروف باسم مفاوضات برلين يعكس هذا التوجه بوضوح، حيث اتفق الأوروبيون على تقديم قرض لأوكرانيا بقيمة 90 مليار يورو، أي ما يعادل 105 مليارات دولار، ليس لدعم الشعب الأوكراني أو إعادة إعمار البنية التحتية، وإنما بهدف الإبقاء على مسار الحرب مفتوحًا.
وأشار أستاذ العلوم السياسية إلى أن المفاوضات الجارية في ميامي تدار بعيدًا عن الحاجز الأوروبي الذي يعوق الوصول إلى حلول عملية، مشيرًا إلى أن هذه المحادثات لن تكون مباشرة بين موسكو وكييف، بل بوساطة أمريكية ويكتفي الأوروبيون بمتابعة النتائج من الخارج.
وأضاف أن هناك مقاومة أوروبية واضحة لمسار التفاوض رغم الأزمات الاقتصادية التي تعانيها دول كبرى مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، نتيجة فقدان الطاقة الروسية الرخيصة وحجم الدعم الكبير الذي قدموه ويقدمونه لأوكرانيا.
وأكد بوش أن الأوروبيين يراهنون على إطالة الحرب لاستنزاف الاقتصاد الروسي، في حين تمتلك موسكو قدرات أوسع وصبرًا طويل الأمد يسمح لها بمواصلة عمليتها العسكرية حتى لو امتد الصراع لسنتين أو أكثر.
ولفت إلى أن بعض العواصم الأوروبية بدأت تراجع حساباتها، مستشهدًا بتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول ضرورة التفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، دون أن يعني ذلك التخلي عن المواقف الأوروبية، وإنما إعادة النظر في آليات الحوار.
وذكر بأن الأوروبيين منذ مطلع عام 2022، وحتى قبل انطلاق العملية العسكرية، كانوا الطرف الذي ابتعد عن التفاوض، كما حدث في اتفاق إسطنبول في مارس 2022، عندما دفع رئيس الوزراء البريطاني آنذاك القيادة الأوكرانية إلى رفض الاتفاق والاستمرار في الحرب، ما جعل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يظهر كأداة بيد الغرب.
وأكد بوش، أن روسيا تتفاوض اليوم مع الولايات المتحدة وليس مع أوروبا لأن العواصم الأوروبية لا تبدي رغبة حقيقية في إنهاء النزاع الأوكراني.
من جانبه، قال خبير العلاقات الدولية الدكتور محمد عثمان، إن الولايات المتحدة تبدي رغبة واضحة في إغلاق الملف الأوكراني في أقرب وقت ممكن وذلك انطلاقًا من حسابات سياسية واستراتيجية تتعلق بإدارة الصراع وتقليص كلفته المباشرة وغير المباشرة.
وأكد عثمان لـ"إرم نيوز" أن المسار الأكثر واقعية لتحقيق هذا الهدف يتمثل في تبني نهج تفاوضي يعكس ميزان القوى القائم على الأرض والذي تمسك فيه روسيا بزمام المبادرة عسكريًا وسياسيًا.
وأشار خبير العلاقات الدولية، إلى أن هذا الواقع ينعكس بوضوح على طبيعة التسوية التي تطرحها واشنطن إذ تراعي إلى حد كبير الرؤية والشروط والمصالح الروسية، مقابل تهميش لافت للمواقف الأوكرانية والأوروبية.
ولفت إلى أن هذا التهميش لا يقتصر على المواقف السياسية فحسب، بل يمتد ليشمل المطالب والاحتياجات الأساسية، وعلى رأسها الضمانات الأمنية التي تمثل جوهر القلق الأوكراني والأوروبي في أي تسوية محتملة، لكنها لا تحظى بالأولوية ذاتها في المقاربة الأمريكية الحالية.
وأوضح أن تراجع دور بروكسل يأتي في إطار سعي واشنطن إلى منع فرض مسارات تفاوضية بديلة قد تؤدي إلى تعطيل العملية السياسية أو تقويضها.
وأضاف أن المقترحات الأوكرانية والأوروبية لا تلقى قبولًا لدى الولايات المتحدة فضلًا عن مواجهتها برفض روسي حاسم، وهو ما يدفع واشنطن إلى تجنب الإصرار عليها خشية انهيار المفاوضات وإطالة أمد الحرب.
وأشار إلى أنه رغم هذا التهميش النسبي للدور الأوروبي، فإن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أخذت بعض الطروحات الأوروبية بعين الاعتبار، وأدخلت تعديلات على مقترحات التسوية، لا سيما تلك المتعلقة بضمانات أمنية تعادل المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي الناتو.
وأكد عثمان أن هذا الرفض يضع واشنطن أمام خيارين أساسيين، أولهما زيادة الضغوط على أوكرانيا مع تقليص الدور الأوروبي إلى الحد الأدنى، لدفع التسوية وفق الشروط الروسية، أو الاتجاه نحو ممارسة ضغوط جديدة على موسكو عبر عقوبات إضافية.
وحذر من أن اللجوء إلى الخيار الثاني من شأنه إطالة أمد الحرب ورفع مستويات التصعيد، بما يهدد بتوسيع رقعة الصراع ويترك تداعيات سلبية على الأمن والسلم الدوليين، ويجعل من الأزمة الأوكرانية نقطة توتر مفتوحة على سيناريوهات أكثر خطورة في المستقبل.