في لحظة يتقاطع فيها حراك العواصم الأوروبية مع اندفاع واشنطن نحو عقد صفقات كبرى، تبدو الحرب الأوكرانية أمام مرحلة مفصلية قد تحدد مصيرها لسنوات مقبلة، خصوصًا مع اقتراب موعد القمة الأمريكية - الروسية المرتقبة في ألاسكا، الجمعة، والتي يخشى الأوروبيون أن تتحول إلى منصة لتفاهمات جانبية بين ترامب وبوتين، دون إشراك أوكرانيا أو الاتحاد الأوروبي بصورة فعلية.
وأعلن المستشار الألماني فريدريش ميرتس عن اجتماع افتراضي يعقد اليوم الأربعاء، يضم قادة أوروبيين ومسؤولي الناتو، بمشاركة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وذلك قبل مكالمة جماعية مرتقبة مع ترامب.
تأتي هذه الخطوة بالتوازي مع اجتماع طارئ لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل، لبحث سبل توحيد الموقف الأوروبي قبل لقاء ألاسكا، الذي ألمح ترامب إلى أنه قد يتضمن صفقة "تبادل أراض" بين كييف وموسكو.
وفي حين لم يدع زيلينسكي للمشاركة المباشرة في القمة، تعمل إدارة ترامب على ترتيب لقاء ثلاثي محتمل يضم بوتين وزيلينسكي، وفق تصريحات نائب الرئيس الأمريكي جاي دي فانس، ولكن الحذر الأوروبي يبقى حاضرًا، إذ تخشى بروكسل أن تكون الصيغة الأمريكية - الروسية النهائية بعيدة عن أولويات أمن أوروبا.
الرئيس الأوكراني استغل الساعات الماضية لتكثيف اتصالاته، متحدثًا إلى 13 قائدًا أوروبيًا، إضافة إلى نظرائه في كازاخستان وأذربيجان، محذرًا من أن تقديم أي تنازل لروسيا لن يوقف عمليات القتل ولن يحقق السلام.
وفي المقابل، واصل بوتين تحركاته الدبلوماسية، متواصلًا مع قادة 9 دول كبرى، بينهم الصين والبرازيل والهند، في محاولة لتعزيز الدعم الدولي لموقف موسكو قبل قمة ألاسكا.
وبالنسبة لأوروبا، فإن المعركة ليست فقط على حدود أوكرانيا، بل على موقعها في هندسة النظام الأمني الجديد بعد الحرب، خاصة أن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو يشكلان، من منظور بروكسل، جدار الحماية الأخير أمام تمدد النفوذ الروسي شرقًا.
ولكن واشنطن، وفق بعض المحللين، قد ترى في الصفقة المباشرة مع موسكو فرصة لتسجيل إنجاز سياسي سريع، حتى لو كان على حساب الشركاء الأوروبيين.
وفي هذا السياق، تبدو الساعات والأيام التي تسبق قمة ألاسكا حاسمة؛ إذ تتسابق العواصم الغربية لبلورة موقف موحد، بينما يراقب الكرملين ببرود، منتظرًا أن تُوضع على الطاولة عروض سياسية واقتصادية ترضي طموحاته الإقليمية.
ويرى كارزان حميد، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية، أن تحركات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في هذا الملف جعلت أوروبا حجر عثرة أمام أي عملية تسوية، حتى وإن كانت هشة، حتى ألمانيا التي باتت تمتلك اليوم اليد الطولى في تغيير مسار الصراع، بعد موافقتها على تمويل توريد صواريخ "باتريوت" الأمريكية إلى أوكرانيا، ما عزز حضورها العسكري والسياسي في المعادلة.
وقال حميد، لـ"إرم نيوز" إن الرئيس الأوكراني فقد زمام المبادرة منذ اليوم الأول للحرب، ولا يزال الموقف الغربي يهيمن على المشهد، ومع ذلك، تخشى أوروبا أن تكون أوكرانيا مجرد بوابة لتوسع النفوذ الروسي في شرق القارة، الأمر الذي يدفع بعض الدول إلى تفضيل بقاء الصراع على حاله، خشية أن تواجه المصير نفسه.
ويشير إلى أن القادة الأوروبيين أضاعوا أوراقًا تفاوضية مهمة حين رضخوا لقرارات ترامب، سواء بزيادة تمويل الناتج المحلي لحلف الناتو من 2% إلى 5%، أم بقبولهم الإبقاء على سقف 15% للتعريفات الجمركية الأمريكية، وهو ما أفقدهم القدرة على المناورة مع واشنطن أو موسكو، لتبقى العقوبات والتصريحات الدبلوماسية أدواتهم الوحيدة، رغم محدودية فاعليتها.
ويكشف الخبير في الشؤون الأوروبية، أن هناك مؤشرات من داخل كييف على استعداد للتنازل عن بعض الأراضي لصالح روسيا مقابل وقف دائم لإطلاق النار، في مشهد يعيد الأزمة إلى نقطة الانطلاق، بعد سنوات من الدمار والخسائر، وبرغم أن بوتين لم يحقق جميع أهدافه، إلا أنه خرج منتصرًا سياسيًا واستراتيجيًا، وجنت واشنطن ثمار تحركاتها، وبقي الأوروبيون خالي الوفاض.
من جانبه، يقول إبراهيم كابان، مدير شبكة الجيوستراتيجي، إن غياب المشاركة الأوروبية في أي حوار جاد بين كييف وموسكو يعني فشل هذا الحوار مسبقًا، مشيرًا إلى أن الاستراتيجية الأوروبية غالبًا ما تعتمد على العصا الأمريكية في الضغط أو التهدئة، ضمن تنسيق غير معلن داخل حلف الناتو.
ويصف كابان المشهد بأنه أقرب إلى توزيع أدوار، واشنطن تمد يد الحوار، بينما تمارس أوروبا ضغطًا لدعم كييف، وفي المقابل، يرفض زيلينسكي أي تنازل إقليمي، بينما تصر موسكو على ضم شرق أوكرانيا ذي الغالبية الناطقة بالروسية.
ويرى مدير شبكة الجيوستراتيجي، أن إدارة ترامب تسعى بوضوح لإبرام صفقات سياسية، لكن التجارب السابقة أظهرت فشل أي تحرك أمريكي بمعزل عن الدور الأوروبي.
ويحذر من أن تكرار النهج نفسه قد يقود إلى النتيجة ذاتها، رغم أن ترامب خفف أخيرًا من ضغوطه على أوروبا في ملفات الرسوم الجمركية وتمويل الناتو، مقابل تعزيز دور واشنطن في إدارة الملف الأوكراني.