لم تطل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانتظار إزاء الحرب الروسية- الأوكرانية، فقبل أن يمضي الشهر الأول من ولايته، بدأ ترامب معالجة هذا الملف عبر التحرك بشكل متزامن في مسارات مختلفة، رغم التناقضات التي شابتها.
من ناحية أولى، مارست إدارة ترامب ضغوطًا على أوكرانيا والأوروبيين، إذ اتهم ترامب أوكرانيا بأنها كانت البادئة بالحرب.
في الوقت ذاته، وجّه نائبه جيه دي فانس، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، رسائل حادة لشركاء الولايات المتحدة الأوروبيين، مطالبين إياهم بتحمل مسؤولياتهم الدفاعية والتوقف عن الاعتماد على الحماية الأمريكية.
ومنذ 7 فبراير/ شباط، بدأت تتسرب معلومات من الولايات المتحدة حول ملامح اتفاق أمريكي-أوكراني يمنح واشنطن سيطرة واسعة على الثروات والاقتصاد الأوكراني بعد الحرب.
وأشارت أولى هذه التسريبات إلى أن أوكرانيا قد تمنح الولايات المتحدة حقوق استثمار المعادن الأرضية النادرة داخل أراضيها، وهو ما قد يساعد على تقليل الضعف الاستراتيجي الأمريكي أمام الصين في هذا المجال.
ومن ناحية أخرى، بدأت إدارة ترامب اتصالاتها المباشرة وغير المباشرة مع روسيا، ما أدى إلى عقد جلسة مفاوضات بين وزيري الخارجية الأمريكي والروسي في العاصمة السعودية الرياض، في 18 فبراير/ شباط. وقد أظهرت التصريحات التي أعقبت مفاوضات الرياض تفاؤلًا حذرًا من الجانبين، فيما يُنتظر عقد لقاء قمة بين ترامب وبوتين في الرياض، في موعد قد لا يتأخر عن نهاية هذا الشهر.
تبدو تحركات إدارة ترامب متأرجحة بين عقد صفقة براغماتية مع روسيا، تضحي فيها بأوكرانيا، وبين إعادة ضبط العلاقات بين الولايات المتحدة، وكل من الأوروبيين والأوكرانيين لمواصلة الدعم العسكري الأمريكي لهم. فكيف توازن إدارة ترامب بين هذه التحركات المتناقضة على هذين المسارين؟ في الواقع، يسعى ترامب إلى تعزيز موقفه التفاوضي في مواجهة كل من روسيا وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي، بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة.
ترامب ليس رجل السلام الذي يرفض الخيار العسكري بالمطلق، كما أنه ليس ألعوبة بيد الكرملين أو مخترقًا من المخابرات الروسية، كما يزعم خصومه. فقد أظهرت تجربته في ولايته الأولى كيف ضاعف العقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا، وكيف ضغط على الأوروبيين – خاصة الألمان – للتوقف عن شراء الغاز الروسي.
ببساطة، ترامب يبحث عن المكاسب الأكبر لبلاده، وعن مخرج يكسر حالة الجمود والمراوحة التي خلفتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن.
يبقى السؤال الأهم: أي المسارين سيحقق للولايات المتحدة المكاسب الأكبر، وأيهما أقرب إلى التحقق؟ هل هو الاتفاق مع روسيا لإنهاء الحرب، أم التفاهم مع الأوكرانيين والأوروبيين للحصول على مكاسب اقتصادية ودفاعية وسياسية؟
ظاهريًا، يبدو هذا السيناريو الأبسط والأسهل من حيث إمكانية تحققه. ستضغط الولايات المتحدة على أوكرانيا للقبول بالسيادة الروسية على الأراضي التي سيطرت عليها موسكو منذ عام 2014، مقابل حصولها على ضمانات أمنية معينة تضمن أمنها في مرحلة ما بعد الحرب. وفي المقابل، توقف روسيا الحرب، وترفع الولايات المتحدة العقوبات عنها.
يبدو هذا السيناريو الأوفر حظًا وفقًا لما تنقله وسائل الإعلام الغربية، إلا أن هذه التغطية تعود إلى أمرين أساسيين: أولًا، تأكيد ترامب والمقربين منه على إمكانية تحقيق هذا السيناريو، وثانيًا، تهويل خصوم ترامب لاحتمال تخليه عن أوكرانيا والاعتراف بالاحتلال الروسي للأراضي الأوكرانية.
لكن الواقع أكثر تعقيدًا، إذ يواجه هذا السيناريو تحديات عدة. على الأرض، لا يزال القتال مستمرًا داخل الأراضي الروسية، وتحديدًا في منطقة كورسك، حيث تتوغل القوات الأوكرانية منذ أغسطس/آب 2024.
في شرق وجنوب أوكرانيا، لا تزال القوات الروسية بعيدة عن تحقيق السيطرة الكاملة على المقاطعات الأربع – لوهانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا، وخيرسون – التي أعلن بوتين ضمها رسميًا للأراضي الروسية في 30 سبتمبر/ أيلول 2022.
من المنظور الرسمي الروسي، تحتل أوكرانيا الآن أراضٍ روسية في خمس مقاطعات: كورسك، ولوغانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا، وخيرسون.
لذلك، يحتاج الكرملين إلى استعادة كامل هذه المناطق ليتمكن من إعلان النصر أمام الرأي العام الروسي. على الأقل، يتطلب تحقيق ذلك استعادة كورسك، إضافة إلى الحصول على مكاسب سياسية واقتصادية تبرر إعادة رسم حدود السيادة الروسية في لوهانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون.
إقناع الأوكرانيين بتقديم هذه التنازلات سيستلزم ضمانات أمنية كبيرة من جانب الولايات المتحدة، ما سيحدّ من فرص واشنطن في تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة داخل الأراضي الأوكرانية مستقبلًا.
إلا أن الملف الأكثر تعقيدًا سيكون ملف العقوبات المفروضة على روسيا منذ عام 2014. فقد كانت هذه العقوبات من بين الأسباب الرئيسة التي دفعت روسيا لغزو أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، وذلك بعدما تجاهل الأمريكيون والأوروبيون الدعوات الروسية لرفع العقوبات وتعزيز العلاقات الاقتصادية ومناقشة الملفات السياسية العالقة.
ومن البدهي أن روسيا لا مصلحة لها في إيقاف الحرب والبقاء تحت وطأة العقوبات الغربية. إلا أن رفع العقوبات الاقتصادية الأوروبية يتطلب انخراط الأوروبيين في مسار المفاوضات الروسي-الأمريكي، وهو أمر غير قائم حاليًا.
بل يظهر بوضوح أن الأوروبيين يتحركون في الاتجاه المعاكس تمامًا، بما في ذلك عبر مناقشة تقديم المزيد من المساعدات الاقتصادية لأوكرانيا، ونشر قوات أوروبية في الأراضي الأوكرانية.
وأخيرًا، يطرح تساؤل هام حول ما إذا كانت إدارة ترامب ترغب في عودة صادرات الطاقة الروسية إلى السوق الأوروبي. فالولايات المتحدة كانت المستفيد الأكبر من خروج روسيا من سوق الطاقة الأوروبي منذ ربيع 2022. كما أن الخطط الحالية لزيادة إنتاج النفط الأمريكي تتطلب تقليص حضور روسيا في سوق النفط العالمي. وقد تعهدت إدارة ترامب بزيادة إنتاج النفط الأمريكي بحوالي 3 ملايين برميل يوميًا.
لكن هذه الزيادة تفوق حجم التقليص المتوقع في صادرات النفط الإيرانية (1 مليون برميل يوميًا) مع بدء تطبيق استراتيجية الضغط الأقصى الأمريكي ضد إيران.
وتبلغ صادرات روسيا اليومية من النفط حوالي 5 ملايين برميل. وروسيا هي الوحيدة من بين كبار منتجي النفط التي يمكن لإدارة ترامب الضغط لتقليص حصتها في سوق النفط العالمية، وذلك لضمان ألا تؤدي زيادة الإنتاج الأمريكي إلى تخفيض الأسعار بشكل حاد، ما يعرض منتجي النفط الأمريكيين لخسائر.
المفاوضات الاقتصادية الحالية مع أوكرانيا قد تمنح الولايات المتحدة مكاسب غير مسبوقة. فقد زعم ترامب أن اتفاق استثمار الثروات المعدنية الأوكرانية سيوفر للولايات المتحدة ما قيمته 500 مليار دولار من المعادن الأرضية النادرة.
وهذه المعادن تشمل 17 عنصرًا لها استخدامات حيوية، خاصة في القطاعات التقنية المتقدمة والطاقة المتجددة والدفاع. حاليًا، الصين هي المسيطر الأكبر على مصادر إنتاج هذه المعادن على النطاق العالمي.
وبالتالي، فإن حصول الولايات المتحدة على هذه المعادن من أوكرانيا سيعزز موقعها التنافسي في مواجهة الصين خلال السنوات المقبلة، سواء في حال تصاعد النزاع العسكري أم التنافس التقني والتجاري.
قد يتجاوز حجم الاستفادة الأمريكية من الثروات المعدنية الأوكرانية ما ذكره ترامب، حيث تقدّر قيمة الاحتياطي الأوكراني من المعادن بأكثر من 11 تريليون دولار أمريكي وفقًا لتقديرات الاقتصاديين.
لكن يبدو أن الإدارة الأمريكية تسعى للحصول على مكاسب تتجاوز قطاع المعادن. فآخر التسريبات في 18 فبراير/ شباط تشير إلى أن مسودة الاتفاق التي تسلمها الأوكرانيون من الولايات المتحدة تطالبهم بالتنازل عن 50% من كل العوائد المستقبلية لاستثمار الثروات الأوكرانية. ومن المحتمل أن يكون هذا الطلب الأمريكي جزءًا من الموقف التفاوضي.
إلا أن أحد أهم العوائق أمام أي استفادة أمريكية من الثروات الأوكرانية هو أن 40% من احتياطي البلاد من المعادن الأرضية النادرة يقع في الأراضي التي تسيطر عليها روسيا حاليًا، وفقًا لدراسة لمركز أبحاث "We Build Ukraine" الأوكراني.
من ناحية أخرى، يدرك الأوروبيون، رغم الانتقادات الحادة التي وجهها جي دي فانس خلال مؤتمر ميونخ للأمن، ضرورة رفع الإنفاق الدفاعي. ففي مؤتمر ميونخ، أعلن مارك روته، أمين عام حلف الناتو، أنه يجب على دول الحلف رفع إنفاقها الدفاعي إلى أكثر من 3% من الناتج المحلي، علمًا أن الحلف كان قد أقر في 2014، في أعقاب أزمة شبه جزيرة القرم، رفع الإنفاق الدفاعي إلى 2% بحلول 2024، وهو ما حققته 23 دولة من أصل 30 دولة عضوًا في الحلف.
في 17 فبراير/ شباط، اجتمع القادة الأوروبيون في لقاء قمة لمناقشة الحرب الروسية- الأوكرانية، على أن يعقدوا اجتماعًا آخر في 19 فبراير/ شباط لمتابعة النقاش. تشير التسريبات والتصريحات إلى استعداد القادة الأوروبيين لإرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا. كما ظهرت تسريبات جديدة في 18 فبراير تفيد بأن الأوروبيين يحضرون حزمة مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا بقيمة 6.2 مليار دولار.
رغم أن هذه المواقف الأوروبية قد تبدو كمحاولة لعرقلة المفاوضات الروسية- الأمريكية، إلا أنها في الوقت نفسه تمثل استجابة لمطالب أمريكية مزمنة بتحمل الأوروبيين دورًا أكبر في حماية أنفسهم وحماية أوكرانيا، بدلًا من الاعتماد بالكامل على الولايات المتحدة.
سيناريو الاتفاق مع روسيا يقدم لترامب مكاسب مهمة، على رأسها الوفاء بوعد انتخابي مهم، وهو أن بلاده ستتوقف عن إنفاق أموال دافعي الضرائب على الحروب الطويلة التي لا تهم الأمريكيين. ولكن هذا السيناريو سيتطلب من ترامب التراجع عن العديد من المكاسب المحتملة، مثل حصة الولايات المتحدة من الاقتصاد الأوكراني، وحصتها من سوق الطاقة الأوروبي، بالإضافة إلى مشاريع زيادة إنتاج الطاقة في الولايات المتحدة.
فمن البدهي أن أوكرانيا لن تقبل التنازل عن أراضيها لصالح روسيا وعن ثرواتها لصالح الولايات المتحدة في الوقت ذاته. كما أنه من البدهي أيضًا أن الأوروبيين لن يكافئوا ترامب بشراء النفط والغاز الأمريكي بدلًا من النفط والغاز الروسي الأقرب والأقل تكلفة. كما ستتضرر حصة الشركات الأمريكية في سوق السلاح العالمي، وخاصة في السوق الأوروبية.
بالمقابل، يضمن سيناريو الاتفاق مع أوكرانيا والأوروبيين هيمنة الولايات المتحدة على سوق الطاقة الأوروبي وعلى قطاع المعادن الأوكراني. كما سيجبر الأوروبيين على زيادة إنفاقهم الدفاعي وزيادة مشترياتهم من الأسلحة الأمريكية، حتى وإن كان ذلك يعني إطالة أمد الحرب الروسية- الأوكرانية.
ومع ذلك، بالرغم من المساوئ المحتملة لكل من السيناريوهين، يبقى أن الواقع يشير إلى أن كلًا منهما يقدم للولايات المتحدة مكاسب كبيرة تفوق ما كانت تأمل إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن بالحصول عليها.