رغم إنفاقها العسكري الذي يناهز 900 مليار دولار سنويًا، وتصدرها قائمة أكبر مصدّري السلاح عالميًا بنسبة 44% من السوق الدولية، تواجه الولايات المتحدة واحدة من أكثر مفارقات القوة الاستراتيجية إحراجًا في تاريخها الحديث؛ من حيث الاعتماد على مخزون مهجور من معدن الساماريوم في مصنع مفلس بفرنسا؛ للحفاظ على جاهزية مقاتلات F-35 وصواريخ توماهوك.
تضم الولايات المتحدة أضخم مجمع صناعي دفاعي في العالم، تقوده شركات عملاقة مثل "لوكهيد مارتن"، و"بوينغ"، و"رايثيون (RTX)"، و"نورثروب غرومان"، وفق صحيفة "يوراسيان تايمز".
ومع ذلك، فإن هذا المجمع بات مهددًا بالتباطؤ، وربما التوقف الجزئي، بسبب اختناق حاد في إمدادات معدن نادر بالغ الأهمية يُستخدم في تصنيع مغناطيسات عالية الأداء تدخل في أنظمة التوجيه والتحكم والطيران.
يُعد الساماريوم عنصرًا أساسيًا في صناعة مغناطيسات الساماريوم–كوبالت (SmCo)، وهي مغناطيسات فائقة الأداء تتحمل درجات حرارة عالية، وتتمتع بثبات مغناطيسي استثنائي، ما يجعلها لا غنى عنها في الطائرات الشبحية، والأقمار الصناعية، وأنظمة توجيه الصواريخ الدقيقة.
المفارقة أن الولايات المتحدة كانت رائدة عالميًا في تطوير هذه التكنولوجيا خلال ستينيات القرن الماضي، بفضل أبحاث أُجريت في قاعدة "رايت–باترسون" الجوية وجامعة دايتون.
غير أن هذه الريادة تآكلت تدريجيًا مع انتقال سلاسل التوريد إلى الصين منذ ثمانينيات القرن العشرين.
جاء هذا التحول نتيجة توافر رواسب ضخمة من المعادن الأرضية النادرة في الصين، إلى جانب لوائح بيئية أقل صرامة، ودعم حكومي واسع مكّن بكين من خفض الأسعار إلى مستويات قضت على أي منافسة غربية؛ وبمرور الوقت، خرجت جميع الشركات الغربية تقريبًا من هذا القطاع.
اليوم، تسيطر الصين على نحو 60% من تعدين المعادن الأرضية النادرة عالميًا، وتصنع قرابة 90% من مغناطيساتها، مع هيمنة شبه مطلقة على مغناطيسات الساماريوم الثقيلة.
في سياق التصعيد التجاري بين واشنطن وبكين، وخصوصًا بعد فرض تعريفات جمركية أمريكية جديدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، ردّت الصين بفرض قيود صارمة على تصدير المغناطيسات الأرضية النادرة الثقيلة، بما في ذلك الساماريوم.
وفي أبريل 2025، اشترطت بكين تراخيص تصدير للساماريوم وستة معادن نادرة أخرى، ما أدى إلى خنق فوري لسلاسل الإمداد الخاصة بشركات الدفاع الأمريكية.
ورغم تخفيف القيود لاحقًا على بعض المعادن الخفيفة والمتوسطة، فإن القيود المفروضة على المعادن الثقيلة بقيت سارية.
هذا الواقع دفع هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية إلى تصنيف الساماريوم كـ"المعدن الحرج رقم 1" من حيث هشاشة سلسلة الإمداد، معتبرةً إياه الأخطر على الاقتصاد الأمريكي والأمن القومي في قائمتها المقترحة للمعادن الحرجة لعام 2025.
وسط هذا الاختناق، برز حل غير متوقع. فقد كشفت سلسلة اتصالات صناعية بين شركات أمريكية وبريطانية وأوروبية عن وجود مكب نفايات قديم للساماريوم في مصنع تابع لشركة "سولفاي" الكيميائية في فرنسا، كان قد أُغلق قبل أكثر من عقدين لعدم جدواه الاقتصادية.
تبيّن أن هذا الموقع يحتوي على نحو 200 طن من الساماريوم شبه المُعالَج، وهي كمية تكفي بالكاد لتغطية احتياجات قطاع الدفاع الأمريكي لمدة عام واحد، وفق تقديرات خبراء معهد المعادن الحرجة.
جرى نقل المادة إلى بريطانيا عبر شركة "ليس كومون ميتالز"، حيث تُحوَّل إلى سبائك، قبل شحنها إلى مصانع أمريكية تُنتج المغناطيسات اللازمة للمقاتلات والصواريخ.
ورغم أن تكلفة الساماريوم المُعالَج خارج الصين أعلى بخمس إلى ثماني مرات، فإن هذا الخيار وفّر "شريان حياة" حاسمًا في لحظة حرجة.
صحيح أن الولايات المتحدة ضمنت إمداداتها لعام واحد على الأقل، إلا أن الأزمة كشفت هشاشة غير مسبوقة في سلاسل التوريد الدفاعية، واعتمادًا مفرطًا على خصم استراتيجي.
ورغم احتمالات تخفيف الصين قيودها مستقبلًا، فإن واشنطن باتت أكثر حذرًا.
كما يقول المثل: "من لدغته الأفعى يخاف من الحبل"؛ ويبدو أن الولايات المتحدة بدأت تدرك أن التفوق العسكري لا يُقاس فقط بعدد الطائرات والصواريخ، بل أيضًا بمدى السيطرة على المعادن الصغيرة التي تُبقي تلك الأسلحة عاملة.