يعكف الاتحاد الأوروبي على إعداد خطط وترتيبات من أجل تقليل اعتماده على الصين للحصول على المعادن الأرضية النادرة، في ظل قيود التصدير الصينية التي يصفها بعض المورّدين بـ"الابتزاز".
وقال المفوض المسؤول عن الاستراتيجية الصناعية في الاتحاد الأوروبي ستيفان سيجورن إن التكتل يعد خطة لإنهاء اعتماده على الصين، سيتم الإعلان عنها مطلع الشهر المقبل.
ومن المنتظر أن تشمل الخطة الأوروبية في عناوينها العريضة "تعزيز الشراء المُشترك للمعادن النادرة، وتكثيف إعادة التدوير في أوروبا، والعمل مع شركاء موثوقين، وإبرام شراكات جديدة".
أصبحت "المعادن النادرة" ساحة للصراعات والمنافسة الدولية، ذلك أن هذا "الكنز غير المرئي" يشكل ركيزة أساسية في الصناعات الحديثة بدءا من تكنولوجيا السيارات الكهربائية والهواتف الذكية والإلكترونيات مرورا بالأسلحة المتطورة والأنظمة الدفاعية الحديثة وصولا إلى الأقمار الصناعية في الفضاء، ما يعني أن ثمة صناعات بمليارات الدولارات تعتمد على هذه المعادن.
ويرى خبراء أن اعتماد أوروبا على الورادات الصينية من المعادن النادرة أظهر تحديات مختلفة قد تلحق ضررا بالغا بصناعتها، مشيرين إلى أن "هشاشة سلاسل التوريد العالمية باتت أكثر وضوحًا في السنوات الأخيرة، خصوصًا مع قيود بكين وتصاعد التوترات الجيوسياسية".
وتنتج الصين نحو 70% من المعادن النادرة على مستوى العالم، وتهيمن على النسبة الأكبر من عمليات المعالجة وفصل العناصر، وهي مرحلة معقدة تمنح القيمة الحقيقية للخام، ما يعني أن الدول الأخرى، حتى لو امتلكت احتياطيات من هذه المعادن، تظل مرتبطة ببكين في مرحلة التكرير والمعالجة النهائية، حسب خبراء.
وتستورد دول الاتحاد الأوروبي ما يقرب من نصف احتياجاتها من هذه المعادن الصينية، بيد أن القلق يتفاقم مع تنامي السياسات الصناعية الصينية التي تشترط معلومات تقنية حساسة للحصول على تراخيص التصدير.
ولا يمكن فصل السياسة عن هذا الحقل الاقتصادي، إذ يرجح خبراء أن "الاحتكار" الذي تنتهجه الصين يأتي كأداة ضغط لتليين مواقف الدول، ومنها الدول الأوروبية، حيال قضايا تتعلق بالحريات وحقوق الإنسان وغيرها من المسائل، وصولا إلى ملف تايوان، وهو ما يفسر السعي الأوروبي بحثا عن حلول وبدائل، حتى لا تكون قيمها ومواقفها "موضع مساومة".
من هنا، فإن السعي الأوروبي لتقليل الاعتماد على بكين بات أمرا ملحا وضروريا، بحسب خبراء، فهو يتعلق بالخيارات السياسية الأوروبية، قبل أن تكون ضرورة اقتصادية، رغم أهمية العامل الأخير.
ويرى خبراء أن أحد أسرع الحلول التي يمكن تطبيقها لتخفيف "الضغط الصيني" في مسألة المعادن النادرة، هو تفعيل آلية "الشراء الأوروبي المشترك" الذي أثبت فاعلية خلال أزمة كورونا، وأزمة الغاز الروسي بعد نشوب الحرب الأوكرانية.
ويوضح الخبراء أن وحدة كلمة الأوروبيين، تحسن شروط التفاوض، وتمنحهم أسعارا أفضل، وتخلق كتلة اقتصادية كبيرة قادرة على عقد اتفاقيات توريد طويلة الأجل سواء مع الصين أو غيرها من الدول.
كما أن استغلال الاحتياطات الأوروبية، رغم قلتها، يعد إجراء مهما، إذ تمتلك بعض الدول الأوربية، بنسب متفاوتة، بعضا من هذه الثروة مثل النرويج والسويد وفنلندا وكذلك إستونيا، لذلك تتجه المفوضية الأوروبية إلى إدراج مشاريع التعدين والمعالجة كأولوية، لكن المشكلة، بحسب خبراء، تكمن في تكاليف الإنتاج والمتطلبات البيئية التي توليها الحكومات الأوروبية اهتماما خاصا على عكس دول أخرى.
من هنا، يلفت خبراء إلى أن الاعتبارات البيئية تقف عائقا أمام الطموح الأوروبي، إذ يرتبط التعدين التقليدي بآثار بيئية كبيرة، ما يضع حكومات أوروبا أمام خيارين صعبين، الاعتماد على نفسها في معالجة الخام، ومراعاة الشروط والمعايير البيئية في ذات الوقت.
وتعتبر معالجة المعادن النادرة من أكثر المراحل أهمية، وفقا لخبراء، وتحتل الصين صدارة الدول في هذا المجال، إذ ترسل الكثير من المعادن النادرة الخام المستخرجة من دول غير الصين، إلى الصين كي تخضع للمعالجة، وهو ما يعيد المشكلة الأوروبية إلى نقطة البداية حتى لو توفر لدى بعض دولها احتياطيات من المعادن النادرة.
ورغم أن القدرات التكنولوجية الأوروبية تؤهلها لتطوير وحدات تصنيع للمعالجة، إلا أن خبراء يحذرون من أن هذا الخيار، رغم أهميته، يحتاج سنوات ليؤتي ثماره، فعمليات التعدين والمعالجة تتطلب بنية تحتية باهظة، وخبرات نوعية غير متوفرة بالكامل في أوروبا.
ويطرح الخبراء إجراء آخر لتقليل الاعتماد على الصين يتمثل في إعادة التدوير، فمن خلال إعادة معالجة النفايات الإلكترونية والمغناطيسيات المستهلكة والبطاريات وأجزاء المحركات، يمكن استخراج كميات مهمة من العناصر النادرة.
ولا يتجاوز معدل إعادة التدوير الحالي في أوروبا 1%، لكن خبراء يرون أن الاتحاد الأوروبي يمكن أن يطور التقنيات ويطبق أنظمة إلزامية لاسترجاع المنتجات من الشركات المصنعة، للوصول إلى تغطية نسبة 25% من احتياجاته عبر التدوير بحلول 2030.
ويطرح خبراء بدائل لتقليل الاعتماد الأوروبي على الصين تتمثل في تنويع الشراكات مع دول غير الصين، وتأتي في رأس القائمة أستراليا، التي تعد ثاني أكبر منتج عالمي للمعادن النادرة، وتتمتع بسمعة طيبة في الاستقرار السياسي والالتزام بالمعايير البيئية.
وثمة كذلك كندا، وهي أيضا شريك موثوق أوروبيًا، ولديها احتياطيات كبيرة من المعادن النادرة، ناهيك عن بعض الأسواق الأفريقية المستقرة نسبيا مثل ناميبيا وبوتسوانا، حيث توجد فرص استثمارية واعدة.
وما يزيد من تعقيد الحصول على المعادن النادرة، هو مسألة التنافس العالمي عليها، خصوصاً مع زيادة الطلب من الولايات المتحدة والهند واليابان.
ويخلص خبراء إلى أن بحث أوروبا عن بدائل للصين من أجل المعادن النادرة لا يمكن اختزاله في أنه محض إجراء تقني اقتصادي، بل هو قبل ذلك رهان سياسي يمس مدى قدرتها على التمسك بـ"استقلالية القرار" في عالم يتحكم فيه التنافس الجيوسياسي، وتتداخل فيه التكنولوجيا بالأمن، والصناعة بالسياسة، وسلاسل التوريد بالمواقف الرسمية.
ولعل هذا ما يفسر الاندفاع الأوروبي في بناء شراكات جديدة غير الصين لمنع ارتهان صناعاته الحيوية لاعتبارات جيوسياسية خارجية، فالتخلص من الاعتماد المفرط على الصين بات هدفا أوروبيا ملحا يحدد مدى ثقل ونفوذ أوروبا السياسي في النظام الدولي.