الكرملين: مشاركة الأوروبيين في مفاوضات أوكرانيا "لا تبشّر بالخير"
في الوقت الذي تصاعدت فيه المخاوف الأمريكية من هيمنة الصين على سلاسل توريد المعادن الحيوية، برز التنغستن كمعدن استراتيجي جديد تتجه نحوه الأنظار في سباق عالمي يتجاوز حدود الاقتصاد إلى عمق الصراع الجيوسياسي بين القوتين العظميين.
وبات هذا العنصر المعدني، الذي لطالما ارتبط بصناعات الدفاع والطاقة، يشكل نقطة اختبار حقيقية لقدرة الولايات المتحدة على فك ارتباطها بالهيمنة الصينية على المواد الأساسية، بحسب مجلة "فورين بوليسي".
معدن صغير بأهمية استراتيجية ضخمة
رغم أنه لا يحظى بالبريق الإعلامي الذي يرافق الليثيوم أو الكوبالت، فإن التنغستن يحتل مكانة خاصة في الصناعات العسكرية والتكنولوجية المتقدمة.
يتميز المعدن بكثافته العالية ودرجة انصهاره التي تتجاوز أي عنصر آخر تقريبًا، ما يجعله مكونًا رئيسًا في الذخائر الخارقة للدروع، وشفرات التوربينات، والمحركات النفاثة، والسبائك المستخدمة في الصناعات الجوية والدفاعية.
لكن الأهمية الاستراتيجية لا تتوقف عند الاستخدام الصناعي. فخلال الحرب العالمية الثانية، كان التنغستن الإسباني أحد الموارد الحيوية التي سعت قوى الحلفاء للسيطرة عليها لمنع وصولها إلى ألمانيا النازية.
واليوم، وبعد قرابة ثمانية عقود، يعيد التاريخ نفسه في مواجهة اقتصادية جديدة تدور بين واشنطن وبكين، وإن كانت بأساليب أكثر تعقيدًا وهدوءًا.
تشير تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية إلى أن الصين تهيمن على نحو 80% من إنتاج مركزات التنغستن في العالم بحلول عام 2024، وهو ما يمنحها قدرة ضغط كبيرة على الأسواق العالمية.
هذا النفوذ يثير قلقًا واسعًا في واشنطن، خاصة في ظل تصاعد التوتر التجاري والعقوبات المتبادلة التي جعلت من المعادن الحساسة أداة نفوذ جديدة في ميزان القوة الدولي.
كازاخستان ونيفادا في قلب الخطة
تدرك إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن أمنها الصناعي والعسكري لا يمكن أن يبقى رهينة سلاسل توريد تسيطر عليها الصين؛ لذلك أطلقت سلسلة مبادرات تهدف إلى تنويع مصادر المعادن الاستراتيجية، كان أبرزها التنغستن.
أحد أهم هذه التحركات تمثّل في اتفاق شركة الاستثمار التعديني الأمريكية "كوف كابيتال" مع حكومة كازاخستان على تطوير مصنع ضخم لتعدين ومعالجة التنغستن باستثمارات تتجاوز 1.1 مليار دولار.
وقد لعبت واشنطن دورًا مباشرًا في التفاوض على الصفقة، مع التأكيد على أن الإنتاج سيُوجَّه في المقام الأول لتلبية احتياجات الحكومة والصناعات الأمريكية.
في الوقت نفسه، تعمل وزارة الدفاع الأمريكية على دعم مشاريع داخلية لإحياء إنتاج التنغستن في الأراضي الأمريكية. ففي يوليو الماضي، منحت الوزارة شركة "جولدن ميتال ريسورسز" التابعة لشركة "جارديان ميتال ريسورسز" منحة بقيمة 6.2 مليون دولار لتطوير مشروعها في ولاية نيفادا.
وصرّح فيك رامداس، القائم بأعمال مساعد وزير الدفاع، بأن "تطوير مصدر محلي للتنغستن يُعد من أهم أولويات الأمن الصناعي الأمريكي"، مؤكدًا أن المعدن يمثل حجر الزاوية في أنظمة التسليح الحديثة.
كما تسعى واشنطن لجذب استثمارات أجنبية وشركات تعدين عالمية للانتقال إلى الأراضي الأمريكية.
وقد بدأت شركة "ألمنتي إندستريز" الكندية بالفعل إجراءات نقل مقرها إلى الولايات المتحدة بعد أن استحوذت على مشروع تنغستن جديد في مونتانا، في خطوة تُعدّ جزءًا من مسعى أوسع لتوطين سلاسل الإنتاج الحيوية.
تحديات بنيوية ومنافسة طويلة الأمد
رغم هذا الزخم الدبلوماسي والاستثماري، يدرك الخبراء أن الطريق أمام واشنطن ليس سهلًا. فتأمين سلاسل توريد جديدة لا يعني مجرد اكتشاف مناجم جديدة، بل يتطلب منظومة متكاملة تشمل البنية التحتية والمعالجة والتصنيع والتصاريح الفنية والبيئية.
وتُعدّ كازاخستان، التي تراهن عليها واشنطن كشريك رئيس، بيئة معقدة سياسيًا واقتصاديًا، إذ تتقاطع فيها المصالح الروسية والصينية، ما قد يجعل تنفيذ المشروع الأمريكي محفوفًا بالعقبات.
وتحذّر غريسلين باسكاران، مديرة برنامج أمن المعادن الحيوية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، من أن "آسيا الوسطى ليست ساحة سهلة للأعمال، فهي منطقة ظلت لعقود تحت نفوذ بكين وموسكو، سواء في التعدين أم في البنية التحتية".
كما أن بناء صناعة تنغستن محلية في الولايات المتحدة قد يستغرق سنوات. فبحسب تقديرات المحللين، فإن الإنتاج المحلي الحقيقي قد لا يبدأ قبل عام 2030، حتى في أكثر السيناريوهات تفاؤلًا.
ومع ذلك، يرى العديد من الخبراء أن ما يجري اليوم يمثل نقطة تحول في التفكير الأمريكي بشأن أمن الموارد. فبدلًا من الاكتفاء بالاعتماد على السوق العالمية، تتجه واشنطن إلى بناء "جغرافيا معادن" جديدة تضع الأمن القومي على رأس أولوياتها.
يمثل التنغستن مثالًا واضحًا على كيف تحولت الموارد الطبيعية إلى أدوات نفوذ واستراتيجيات في النظام الدولي الجديد.
فبينما تسعى الصين للحفاظ على هيمنتها عبر التحكم في سلاسل التوريد، تحاول الولايات المتحدة إعادة بناء منظومة إنتاجية قادرة على تأمين استقلالها الصناعي والعسكري.
وفي قلب هذا الصراع، يقف معدن غير لامع ظاهريًا، لكنه أصبح اليوم أحد أكثر العناصر سخونة في سباق القوى العظمى نحو السيطرة على مستقبل التكنولوجيا والدفاع.