الشرطة الأسترالية: اعتقال 7 أشخاص في سيدني على صلة بهجوم بوندي
في مدينة ميامي الأمريكية، وبعيدًا عن الضوضاء والأضواء، عُقد اجتماع رفيع المستوى بين ممثلين عن الجانب الأمريكي والروسي، وتمكّن من الخروج بوثيقة متكوّنة من 28 نقطة لإنهاء الصراع في أوكرانيا وعليها.
وإذا مثّلت وثيقة "ميامي" نقطة ارتكاز لباقي مسار التفاوض، فإنّ الاتجاه العام لمضمونها يتمثّل في أنّها فرضت على كييف مبدأ "الأرض مقابل السلام"، وعلى موسكو مبدأ الاكتفاء بقضم جزء من الكعكة الأوكرانية دون ابتلاعها بالكامل.
وفي خضم "جلجلة" صوت البنادق والدبابات على جبهة القتال الأوكرانية الروسية، كانت مدينة ميامي الساحلية السياحية تحتضن واحدة من أهم الاجتماعات التفاوضية السرية، خلال الفترة الممتدة ما بين نوفمبر وديسمبر من العام الحالي.
وقد حضر عن الجانب الأمريكي ستيف ويتكوف (المبعوث الخاص لأمريكا في الشرق الأوسط) وجيرارد كوشنر (صهر ترامب)، وعن الجانب الروسي كيريل دميترييف (رئيس الصندوق الروسي للاستثمار المباشر، والمستشار المقرّب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين).
وقد أفضت الاجتماعات الماراثونية إلى بلورة وثيقة أولية متكوّنة من 28 نقطة، تمّ عرضها في وقت لاحق على ممثل الجانب الأوكراني رستم عمروف (أمين مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني)، وأندريه يرماك (رئيس مكتب الرئيس الأوكراني).
ولئن أكّد المسؤولان الأوكرانيان أنّ دورهما تقني بالأساس وأنّهما ناقشا الورقة من هذه الزاوية الفنية، فإنّ الموقف الأوكراني الرسمي لم يتأخر، حيث أعادت كييف لواشنطن وثيقة منقّحة من الورقة الأصلية، متضمّنة 20 نقطة.
ويؤكد المتابعون والخبراء في الشأن السياسي الأمريكي أنّ وثيقة ميامي تعبّر عن تحوّل أمريكي سياسي كبير في كيفية تمثّل الصراع الروسي–الأوكراني؛ فبعد أن كانت الفلسفة الأمريكية تقوم على مبدأ السيادة الكاملة والشاملة لأوكرانيا على أرضها، انزاحت نحو مبدأ "تسليم الأرض مقابل السلام".
وتنطلق وثيقة ميامي من مجموعة من الفرضيات والمسلمات التي يبدو أنّ كييف لا تعارضها بشكل كامل: أوّلها أنّ روسيا باتت الطرف الأقوى في معادلة الصراع، وثانيها أنّ زخم التقدم العسكري الروسي يؤشّر إلى إمكانية ابتلاع كلّ أوكرانيا وليس فقط المناطق الجغرافية المنصوص عليها دستوريًّا، وثالثها أنّ الدعم الأوروبي عاجز عن تغيير المعادلات العسكرية، ورابعها أنّ الحلف الأطلسي لا يمكنه الانخراط في حرب مباشرة مع روسيا، وخامسها أنّ التسوية الحقيقية مقدّمة لسلام دائم، وهذه التسوية قد تقوم على مقولة "نصف رابح روسي، نصف خاسر أوكراني".
تعترف الوثيقة بضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم ومناطق لوغانسك ودونيتسك، على أن يُجمَّد الوضع العسكري في خيرسون وزاباروجيا عند خطوط التماس، وتتخلى روسيا عن باقي الأراضي التي تسيطر عليها خارج هذه المناطق الخمس، مع انسحاب القوات الأوكرانية من الجزء الذي تسيطر عليه في دونيتسك.
وبعبارة أدق، تعترف وثيقة ميامي بالسيادة الروسية على كامل إقليم دونباس، وعلى 75 بالمائة من إقليمي "خيرسون" و"زاباروجيا"، مع تصنيف المنطقة التي ستنسحب منها القوات الأوكرانية في دونيتسك منطقة عازلة.
كما تنصّ الوثيقة على عدم انضمام أوكرانيا للحلف الأطلسي، وعلى أن يسنّ الأخير بنودًا تؤكد رفضه انضمام أوكرانيا له، إضافة إلى رفع جزئي للعقوبات الاقتصادية الروسية.
وحيال هذه الوثيقة، اعتبرت مصادر قريبة من كييف أنّ الوثيقة في نسختها الأصلية كُتبت بمداد روسي، حيث استجابت تقريبًا لكافة المطالب الروسية التي على أساسها شنّت موسكو حربها ضدّ أوكرانيا في فبراير 2022.
ولم يتأخر الرد الأوكراني الذي جاء في 20 نقطة، مقسّمة على 3 ملفات كبرى، وهي: الضمانات الأمنية، وإنهاء الحرب، وإعادة الإعمار.
وتنصّ الوثيقة الأمنية المعدّلة على ضمانات أمنية على غرار المادة الخامسة في ميثاق الأطلسي، والتي تقوم على مبدأ الدفاع المشترك بين دول الحلف، كما تقترح منح كييف عضوية في الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2027.
وتستبعد "ميامي 2" أي صيغة تمنع انضمام أوكرانيا مستقبلًا للحلف الأطلسي، لكنها لا تذكر صراحة إمكانية انضمامها إليه.
وفيما يخصّ تعداد الجيش الأوكراني، فإنّ الوثيقة المعدّلة تنصّ على إمكانية أن يكون تعداده 800 ألف جندي، فيما كانت الوثيقة الأصلية تشير إلى 600 ألف جندي.
والمفارقة في كلّ ما سبق، تكمن في محافظة الوثيقة المعدّلة على الاقتراح الأمريكي للسيطرة الروسية على المناطق الخمس المذكورة، وفق مصادر إعلامية أمريكية مطلعة.
وهو ما يثير تساؤلات حول حقيقة موافقة كييف على التنازل عن نحو خمس جغرافيتها لصالح روسيا، والتخلي عن أماكن غنية بالثروات الباطنية والتعدينية، والتي مثّلت عصب الاقتصاد الأوكراني لعقود طويلة.
في هذا السياق، يؤكد المراقبون أنّ المحافظة الأوكرانية على البنود الأصلية حول التنازل عن الأراضي، يؤشّر إلى أمرين اثنين: أولهما القبول بالأمر الواقع وتجنب خسارة الوقت، ولا سيما أنّ الزمن يلعب لصالح القوات الروسية التي باتت تتمدد في كافة الشرق، والمنطقة التي تحوزها اليوم قد لا تتخلى عنها غدًا.
ويتعضد هذا التقدير الأول مع وجود ضمانات أمريكية واضحة وصريحة بتحويل المنطقة المتبقية من خيرسون وزاباروجيا إلى منطقة اقتصادية حرة منزوعة السلاح، وبانسحاب القوات الروسية من مناطق خاركيف وسومي ودنيبروبتروفسك، وهي مناطق استراتيجية بالنسبة لأوكرانيا.
أما الأمر الثاني فهو تصدير ملف التنازل عن الأراضي إلى الاستفتاء الشعبي الأوكراني، إذ لا يمكن دستوريا وقانونيا أن تتنازل أي حكومة عن أراضٍ تقع تحت السيادة الوطنية.
وأكّد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن أي تسوية بشأن الأراضي ينبغي أن تُحسم في تصويت شعبي، قائلًا: "أعتقد أن شعب أوكرانيا سيجيب عن هذا السؤال، سواء عبر انتخابات أو عبر استفتاء، فالموقف لا بد أن يصدر عن شعب أوكرانيا".
ومن المقرر أن يساعد الالتجاء إلى الاستفتاء الشعبي زيلينسكي في عدّة مستويات مهمة: أولها تحميل مسؤولية التنازل إلى الشعب والنأي بنفسه عن هذا الملف الثقيل الذي لن ينساه التاريخ الأوكراني — في حال إقراره — بأي شكل من الأشكال.
ثانيها اقتلاع الشرعية لمنصبه السياسي كرئيس لأوكرانيا عقب موجات التشكيك في شرعيته، إذ إنّ ولايته انتهت منذ أكثر من سنة، وما يزال يتذرّع بالحرب وبحالة الطوارئ لعدم إجراء الانتخابات الرئاسية.
ثالثها ربح الوقت السياسي والعسكري دون تقديم أي تنازل مكتوب، فتهيئة البلاد المنكوبة لاستفتاء شامل تفترض هدنة كاملة، ومساعدات لوجستية ومادية أوروبية وأمريكية، وهي مقتضيات ستساعد كييف على التقاط الأنفاس قبل الاستئناف الممكن للقتال.
رابعها خلط الأولويات السياسية والعسكرية في وثيقة ميامي، فعوضًا عن الانطلاق من التنازل عن الأراضي للوصول إلى الانتخابات الرئاسية، تصبح الخطة الجديدة تقوم على الاستفتاء كإجراء سياسي للوصول إلى التنازل من عدمه.
خامسها نيل الاعتراف الروسي والأمريكي والعالمي بأنّ سكان الأقاليم الخمسة الذين سيصوتون في الاستفتاء هم مواطنون أوكرانيون يُدلون برأيهم حيال التنازل عن أرضهم، وهو ما يتناقض جملةً وتفصيلًا مع جوهر وثيقة "ميامي"، ومع السردية الروسية التي تعتبرهم مواطنين روسًا في أراضٍ تاريخية روسية.
وعلى هذا الأساس، تتضح عقدة ملف التنازل عن الأراضي، وهي عقدة قد تقوّض كافة جهود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يسابق الزمن السياسي قبل الانتخابات النصفية للكونغرس، حيث من الممكن أن يقلب الديمقراطيون عليه الطاولة ويعيدوا ترتيب المشهد السياسي الأمريكي وفق مقولة "البطة العرجاء".
ويبدو أنّ جزءًا من الرهان الأوكراني قائم على ربح الوقت، وانتظار التغييرات القائمة والقادمة في واشنطن وتداعياتها على أوكرانيا وعلى غيرها من بقاع العالم.