في الوقت الذي يواصل فيه الجيش الإسرائيلي عملياته في مدينة غزة، تبدو الأزمة الأمنية والسياسية أكثر تعقيدا من أي وقت مضى.
يجد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الطامح لتحقيق إنجاز سريع قبل عيد رأس السنة العبرية والذكرى الثانية لمجزرة السابع من أكتوبر، نفسه محاصرا بين وعوده السياسية ومخاطر الواقع العسكري، بينما يتخذ رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، موقفا نادرا في محاولة للحد من الخسائر وحماية الرهائن، بحسب صحيفة " هآرتس" الإسرائيلية.
وعلى الرغم من التصريحات الإعلامية المتفائلة لنتنياهو، إلا أنه ليس لديه خطة واضحة لتحقيق نصر سريع في غزة مع الحفاظ على سلامة الرهائن؛ ما يضع الحملة العسكرية في مرحلة من التوتر الداخلي غير المسبوق.
أقنع نتنياهو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بدعم التصعيد البري في المدينة، واعدا بنتائج سريعة، لكن زامير، المعارض للعملية، يوجّه القوات للتقدم ببطء وحذر، لتقليل الخسائر وإدارة المخاطر على الجنود والمدنيين على حد سواء.
تعكس هذه الانقسامات في القيادة العسكرية والسياسية غياب التناغم بين الهدفين الرئيسين للحرب: تفكيك حكم حماس وضمان إطلاق سراح الرهائن.
وتحقيق الهدف الأول يتطلب وقتا طويلا، بينما تعرّض تأخيرات التنفيذ حياة الرهائن للخطر، كما أن فرص أي عملية إنقاذ ناجحة تبدو ضئيلة، باستثناء بعض النجاحات النادرة مثل إنقاذ الرهينة البدوي قايد فرحان القاضي في أغسطس 2024.
وتشعر القيادة العسكرية بقلق متزايد من أن حماس قد تنتقم بالرهائن، أو أنهم قد يسقطون ضحايا القصف المكثف الذي ينفذه الجيش لإضعاف دفاعات الحركة قبل أي توغل بري أوسع.
وفي الوقت نفسه، يسعى نتنياهو لتثبيت رصيده السياسي من خلال تحقيق انتصار سريع، حتى لو كان ذلك على حساب التخطيط السليم أو سلامة المدنيين.
وتظهر وتيرة العمليات العسكرية البطيئة والحذرة، التي يفرضها زامير، مدى تعقيد المهمة؛ حيث لم تدخل القوات المدرعة قلب مدينة غزة بشكل كامل، رغم تقدم أرتال كبيرة قرب مخيمي جباليا والشاطئ للاجئين.
ويواجه الجيش الإسرائيلي تحديًا مزدوجًا: إدارة القتال داخل مناطق مأهولة بالسكان، مع استمرار الضغوط السياسية من نتنياهو والمجتمع الدولي لتخفيف الخسائر.
وفي ظل هذه المعطيات، يصبح النزوح الجماعي للفلسطينيين عاملا حاسما لتحديد مسار العمليات. بحلول مساء الأربعاء الماضي، غادر حوالي 400 ألف شخص المدينة، لكن ممرات الإجلاء لا تزال محفوفة بالمخاطر، واللاجئون يواجهون ظروفا قاسية في الملاجئ في وسط وجنوب القطاع.
ويظل آلاف آخرون على خط النار مباشرة، معرضين لمخاطر القصف المباشر، بينما تحاول حماس استعادة زمام المبادرة عبر حملتها الإعلامية، مظهرةً الأزمة الإنسانية المتفاقمة.
على صعيد آخر، تتفاقم التوترات داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، خاصة حول تعيين اللواء (احتياط) ديفيد زيني رئيسًا للشاباك.
وهذا التعيين، المدعوم من نتنياهو، أثار مقاومة زامير الذي أعاق انخراط زيني في الجيش بعد اجتماعه مع رئيس الوزراء دون علمه، فيما انبرى عدد من كبار قادة الاحتياط للدفاع عن المرشح الجديد، مؤكدين ولاءهم لشبكة النفوذ الداخلي، حتى على حساب نزاهة النظام الديمقراطي.
وتظهر مواقف بعض المسؤولين السياسيين، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، بعدم اكتراثهم بمصير المدنيين الفلسطينيين، حيث وصف غزة بأنها "مكسب عقاري"، في تصريح مثير للجدل يعكس رؤية ضيقة تضع المصالح الاقتصادية فوق الإنسانية والأمن.
في المجمل، يواجه الجيش الإسرائيلي اختبارا استثنائيا في قيادة حرب حضرية معقدة، وسط صراع داخلي بين القيادة السياسية والعسكرية.
ويسعى نتنياهو للإنجاز السياسي العاجل، بينما زامير يحاول تقييد المخاطر؛ ما يخلق حالة من التوتر الدائم بين رغبة الحكومة في النصر السريع وحتميات الواقع الميداني.
يبقى السؤال الأساسي: هل ستنجح إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية دون تفاقم الأزمات الإنسانية، أم أن التناقضات الداخلية ستستمر في عرقلة أي خطة حقيقية؟ مع استمرار النزوح الجماعي، وضغوط الرأي العام الدولي، واستراتيجية حماس في المقاومة، يبدو أن الطريق إلى أي انتصار واضح في غزة لا يزال محفوفا بالمخاطر والمعوقات، وأن أي "نجاح سريع" قد يتحول إلى فشل طويل الأمد يهدد الاستقرار الإسرائيلي نفسه.