في خطوة لفتت الانتباه مجددًا إلى ثقل السلاح النووي أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن لدى بلاده "القوة والموارد الكافية لإيصال الأزمة في أوكرانيا إلى نهايتها المنطقية"، مضيفاً أنه "يأمل ألا تكون هناك حاجة لاستخدام الأسلحة النووية".
تصريحات بوتين تتزامن مع إطلاق موسكو مبادرة لوقف إطلاق نار مدته ثلاثة أيام بمناسبة احتفالات "يوم النصر"، وهو عرض قوبل برفض سريع من الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينكسي الذي طالب بتهدئة أطول مدى لمدة ثلاثة أشهر.
وأطلق بوتين تحذيره خلال مقابلة بثتها قناة "Rossiya 1"، قال فيها إن استخدام الأسلحة النووية سيبقى "خيارًا أخيرًا" محفوظًا وفق ما تسمح به النسخة المحدثة من العقيدة الروسية التي أقرت في نوفمبر 2024.
وفي 18 نوفمبر 2024، أصدر الكرملين النسخة الأحدث من المبادئ الأساسية لسياسة الدول في مجال الردع النووي، عبر قرار رئاسي وقعه بوتين رسمياً، ليُعلن عن توسيع نطاق الحالات التي تتيح لروسيا استخدام الأسلحة النووية.
وحددت الوثيقة الجديدة إمكانية الرد النووي أيضاً على تهديدات وجودية تتجاوز السابق، إلى ما سمته بـ"اعتداءً يعرقل بقاء الدولة"، مما يضفى غموضًا أكبر ويمنح الكرملين مساحة مناورة سياسية وعسكرية أوسع.
مع هذه التصريحات، يبقى التساؤل الأبرز، هل ما قاله بوتين يمثل تحولًا فعليًا في قواعد الاشتباك النووي الروسية، خاصة وأن هناك تحولا لتصعيد محسوب ضمن لعبة كسب أوراق التفاوض؟
ويرى خبراء، أن تصريحات الرئيس بوتين بشأن السلاح النووي لا تُفهم كتحذير عابر، بل كجزء من استراتيجية ردع محدثة توسع مفهوم "التهديد الوجودي" وتمنح روسيا هامشًا سياسيًا وعسكريًا لاستخدام نووي محدود عند الضرورة، في إطار ما تسميه موسكو بـ"التصعيد من أجل التهدئة".
وفي تصريحات لـ"إرم نيوز"، أكد خبراء، أن الغرب يتعمد استفزاز روسيا لدفعها نحو اسخدام السلاح النووي، وأن القيادة الروسية تدرك أن ذلك سيجعلها في موقع المُدان دوليًا.
وأشاروا، إلى أن بوتين يضع خطوطًا حمراء واضحة تتعلق بالمنشآت الحيوية، وأن روسيا ما زالت تراهن على تفوقها العسكري التقليدي دون الاندفاع إلى استخدام النووي إلا في حال التهديد الوجودي المباشر.
وأكد ديميتري بريجع، مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، أن تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول "الأمل في عدم استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا" لا يمكن اعتباره مجرد موقف نظري، بل يعكس رسالة استراتيجية مزدوجة تحمل طابع التحذير الجدي من جهة، والاستعداد النفسي للرأي العام من جهة أخرى، تمهيدًا لاحتمالات تصعيد أخطر في الصراع.
وأشار بريجع، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، إلى أن هذا التصريح يستند إلى العقيدة النووية الروسية التي تم تحديثها في يونيو 2020، والتي تتيح استخدام الأسلحة النوية في حال تعرض الدولة الروسية لتهديد وجودي، أو لهجوم بأسلحة دمار شامل، أو إذا واجهت تهديدًا استراتيجيًا خطيرًا.
وأوضح أن هذه العقيدة تضع الردع النووي كخيار أخير، لكنه فعال، وهي مصممة لردع أي اعتداء مباشر على السيادة الروسية، وتمنح الكرملين غطاء سياسيًا وعسكريًا لتصعيد محسوب عند الضرورة.
ونوه إلى أن مفهوم "التهديد الوجودي" تم توسيعه ليشمل سيناريوهات غير نووية، وهو ما يُعطي موسكو هامشًا أوسع للمناورة والضغط في ظل النزاع المتصاعد مع الغرب.
أوضح مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، أن العقيدة النووية المعدلة تعتمد على الدمج بين القدرات التقليدية والنووية ضمن منظومة الردع، حيث برز هذا التوجه منذ حرب جورجيا 2008، وتكرس بشكل أكبر مع تطورات الصراع في أوكرانيا منذ 2014.
ولفت إلى أن روسيا لا تراهن فقط على استراتيجية "الرد الشامل"، بل تعتمد على مفهوم "التصعيد من أجل التهدئة"، أي استخدام محدود للأسلحة النووية بهدف فرض وقائع جديدة على طاولة المفاوضات.
وأضاف أن تهديد بوتين لا يستهدف أوكرانيا وحدها، بل يتوجه مباشرة إلى الغرب، في محاولة لإعادة ضبط قواعد الاشتباك وإيصال رسالة قوية إلى واشنطن وبروكسل بأن التصعيد قد يُقابل برد يصعب احتواؤه.
وأكد أن تصريحات بوتين تأتي في توقيت حساس، مع دخول مساعدات غربية نوعية إلى كييف، وقيام الجيش الأوكراني بتوجيه ضربات داخل العمق الروسي، وهو ما يفسر عودة لغة الردع النووي إلى الواجهة.
أشار بريجع إلى أن الرئيس الروسي يسعى لإظهار الحزم أمام الدوائر السياسية والعسكرية الداخلية، عبر التأكيد أن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة، في ظل ضغوط اقتصادية وديمغرافية متصاعدة.
وشدد على أن التهديد الروسي بالسلاح النووي يُعيد إلى الأذهان مفهوم "توازن الرعب" ما يعزز من فرص تحريك مسار التفاوض بشروط أكثر ملاءمة لموسكو، وسط قناعة روسية بأن الحرب طويلة وأن الغرب يراهن على إنهاكها.
في السياق ذاته، قال نزار بوش، أستاذ العلوم السياسية في جامعة موسكو، إن التصعيد الغربي تجاه روسيا منذ بداية الحرب في أوكرانيا يتسم بالاستفزاز المتعمد، بدءًا من تزويد كييف بأسلحة بعيدة المدى، ووصولًا إلى استهداف مناطق حساسة مثل جسر القرم، وحتى استخدام المسيّرات لضرب أهداف في العمق الروسي.
وأوضح بوش في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن بعض هذه التحركات، خصوصًا استهداف الكرملين ومحاولات ضرب محطات الطاقة، كانت تهدف إلى جرّ روسيا لاستخدام سلاحها النووي التكتيكي، لكن القيادة الروسية تعي تمامًا العواقب الخطيرة لمثل هذا الخيار، سواء على الصعيد الدولي أو الداخلي.
وأشار إلى أن تلك الاستفزازات لم تصل إلى الحد الذي يشكل تهديدًا وجوديًا حقيقيًا، خاصة مع فشل محاولات كييف في استهداف محطات الطاقة الذرية، والتي قد تدفع موسكو للرد النووي في حال نجاحها.
وبين أن تحذيرات الغرب من التصعيد النووي لعبت دورًا في كبح جماح هذه المحاولات، نظرًا لما قد يترتب عليها من تداعيات كارثية على أوروبا والعالم.
وأوضح أستاذ العلوم السياسية، أن تصريحات بوتين الأخيرة تأتي في هذا السياق التصعيدي، وهي بمثابة تحذير مباشر بأن أي تهديد وجودي أو استهداف لمنشآت حيوية قد يُقابل برد نووي.
وشدد على أن روسيا تمتلك من القدرات العسكرية التقليدية ما يمكّنها من تحقيق أهدافها من دون اللجوء إلى الأسلحة النووية، لكنها في الوقت نفسه ترسم "خطوطًا حمراء" لا تقبل تجاوزها.
وأضاف أن روسيا تستهدف حاليًا منشآت الطاقة التي تدعم القوات الأوكرانية، وليس المدنيين، وهو ما يؤكد أن التصعيد الروسي لا يزال مضبوطًا ضمن حدود محسوبة.
وأكد أستاذ العلوم السياسية د. نزار بوش، أن روسيا باتت تمتلك أوراقًا قوية على طاولة التفاوض، خاصة مع التقدم الميداني في أكثر من جبهة، في حين تبدو أوكرانيا في موقف تفاوضي أضعف.
وأشار إلى أن هذا الواقع العسكري قد يسرع التوجه نحو تسوية تفاوضية، خصوصًا إذا تم إدراك أن البديل هو تصعيد قد يصل إلى استخدام السلاح النوي، بما يحمله من تداعيات كارثية، وفق قوله.