في تطور لافت في مسار التعاطي الأمريكي مع الحرب الروسية الأوكرانية، دعا وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، خلال اجتماع وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الدول الأوروبية إلى تقديم مقترحات واضحة بشأن الضمانات الأمنية لأوكرانيا، مشيراً إلى ضرورة أن تضطلع أوروبا بدور أكبر في دعم كييف.
دعوة روبيو، تعكس تحولاً محسوباً في الإستراتيجية الأمريكية تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، حيث باتت واشنطن تسعى لتوزيع الأعباء الأمنية مع حلفائها بدلاً من مواصلة الانخراط المباشر في تفاصيل الصراع الميداني والسياسي.
وفي تصريحات لوزير الخارجية الأمريكي، قال إن بلاده لن تنشر قوات على الأرض، لكنها ستدعم كل جهد أوروبي ضمن الإطار الجماعي للناتو، وأن أوكرانيا لها الحق في الدفاع عن أراضيها، وأن الدعم الغربي لا يمكن أن يبقى رهيناً للقرار الأمريكي وحده.
إعادة تشكيل توازن الناتو
ويرى المراقبون، أن هذه التصريحات تعبّر عن رغبة أمريكية في إعادة تشكيل التوازن داخل الحلف، من خلال تقليص الانفراد بالملف الأوكراني، وتحفيز الأوروبيين لتولّي مهام أمنية مباشرة، وربما من خلال قوات حفظ سلام أو ضمانات دفاعية مباشرة.
وقال الخبراء، إن دعوة أمريكا للغرب بتقديم مقترحات للضمانات الأمنية في أوكرانيا تُظهر مرونة واشنطن ظاهريا، وأن جوهر سياستها يقوم على منع أي تحرك أوروبي منفرد يمكن أن يهدد هيمنتها على التحالف الغربي.
ويعتقد الخبراء، أن واشنطن تستغل حالة التشتت الأوروبي، وتدفع نحو هندسة دور أوروبي "محدود"، وذلك لضمان استمرارية الأزمة ضمن شروط أمريكية خالصة، وهو ما يؤدي إلى تحول الحرب الأوكرانية إلى أداة في يد الولايات المتحدة لترتيب خريطة القوى الدولية، وإبقاء أوروبا ضمن حدود السيطرة الأمريكية الكاملة.
وعود وحسابات إستراتيجية
وأكد المحلل السياسي كارزان حميد، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ توليه منصبه تعهّد بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بأي ثمن، إلا أن واقع السياسة الأمريكية لم يشهد تغييراً جذرياً، بل ظل متمسكاً بمسار مزدوج يعتمد على الضغط والطمأنة تجاه طرفي الصراع "موسكو وكييف".
وقال المحلل السياسي، في تصريح لـ"إرم نيوز"، إن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مارك روبيو تندرج ضمن هذه الإستراتيجية، التي تعرف بسياسة "العصا والجزرة"، خاصةً أن واشنطن تدرك، تماماً، أن أي دعم عسكري أوروبي مباشر في أوكرانيا قد يؤدي إلى مواجهة مفتوحة مع روسيا.
وتابع: "لذلك تسعى واشنطن إلى ضبط إيقاع التحرك الأوروبي، متيحة للأوروبيين بعض المجال، مقابل احتواء ردود أفعالهم إزاء الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب".
مخاوف أوروبية
ويرى حميد، أن أوروبا، اليوم، وجدت نفسها محاصَرة بين تهديدات اقتصادية من واشنطن، وخطر عسكري روسي، فهي تسعى إلى تشكيل قوة عسكرية يمكنها الانتشار في أوكرانيا، لمواجهة مخاوف من الانجرار إلى مواجهة مباشرة دون غطاء حقيقي من حلف الناتو أو الولايات المتحدة، خاصة في ظل غموض الموقف الأمريكي من تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف.
وأضاف أن تصريحات روبيو تُعد رسالة تحذير مبطّنة لموسكو للقبول بحل سياسي، في الوقت الذي تشهد فيه التحالفات الداعمة لأوكرانيا تصدعات متزايدة، سواء من خلال الحديث عن انسحاب أمريكي محتمل من الناتو، أو الضغط لرفع الإنفاق العسكري الأوروبي، وهو ما يفقد أوروبا توازنها ويجعلها أكثر تبعية لواشنطن.
استمرار الهيمنة الأمريكية
وفي السياق ذاته، اعتبر الخبير في الشؤون الروسية د. محمود الأفندي، أن السياسة الأمريكية الحالية لا تهدف إلى منح أوروبا دوراً فعليا في الملف الأوكراني، وإنما تسعى إلى ضمان استمرار الهيمنة الأمريكية على القرار الأوروبي.
وأوضح الأفندي في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن التصريحات الأخيرة من واشنطن، رغم طابعها الإيجابي، لا تعدو كونها مناورات إعلامية لامتصاص الغضب الأوروبي المتزايد، وأن الولايات المتحدة تنظر إلى الصراع الأوكراني كجزء من ترتيبات دولية أوسع ضمن النظام العالمي الجديد، وبالتالي فهي لن تسمح بتحرك أوروبي منفصل عن إشرافها الكامل.
وأضاف الخبير في الشؤون الروسية، أن فرض ترامب رسوماً جمركية على أوروبا يُعد ضربة إستراتيجية تهدف لتقويض استقلال القرار الأوروبي، وربما تمهد لأزمة اقتصادية حادة في القارة العجوز.