logo
تحركات أوروبية لمواجهة التهديد النووي الروسي
العالم
خاص

لوّحت بـ"عصا النووي"… كيف وضعت موسكو الغرب أمام "اختبار الأعصاب"؟

تزامنًا مع تصاعد حدة المعارك في الشرق الأوكراني وتزايد التوترات بين موسكو والغرب، عاد الملف النووي ليتصدر واجهة الاهتمام الدولي، وسط تحذيرات روسية شديدة اللهجة من مغبة أي تصعيد.

فقد رفع نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، سقف الخطاب، مؤكدًا أن بلاده "سترد فورًا وبقوة" في حال أقدمت أي دولة — وفي مقدمتها الولايات المتحدة — على استئناف التجارب النووية، في خطوة تعكس عودة التلويح بالردع النووي إلى صدارة المشهد الجيوسياسي العالمي.

في المقابل، قال الرئيس فلاديمير بوتين إن عدم تمديد اتفاقية "نيو ستارت" مع واشنطن "ليس أمرًا كبيرًا"، مؤكدًا أن موسكو ستراقب تحرّكات الأمريكيين من كثب.

ورغم أن التصريحين لم يقدما مؤشرًا على نية روسيّة لاستخدام السلاح النووي، فإنّ توقيتهما جاء محسوبًا؛ قبيل جولة أوروبية جديدة لبحث الدعم العسكري لكييف، وفي ظل تراجع نسبي في الحماسة الشعبية الأوروبية تجاه الحرب. أي أن التهديد هنا سياسي بقدر ما هو عسكري، يهدف إلى اختبار صلابة الموقف الأوروبي.

"ابتزاز سياسي"

وقال مصدر دبلوماسي فرنسي لـ"إرم نيوز" إنّ التصريحات الروسية الأخيرة "تتعامل مع أوروبا كجبهة سياسية قبل أن تكون عسكرية"، مضيفًا أن "الكرملين يدرك تمامًا أن أي تلميح نووي، ولو غير مباشر، يترك أثره في المزاج العام الأوروبي ويضغط على الحكومات التي تخوض معارك انتخابية أو تواجه أزمات داخلية".

وأوضح المصدر أنّ النقاش الدائر داخل العواصم الأوروبية لا يقتصر على الردّ العسكري، بل يشمل أيضًا كيفية إدارة الخطاب العام. "أوروبا اليوم مطالبة بالتماسك الهادئ بعيدًا عن أي تصعيد لفظي. الردّ على موسكو يجب أن يكون استراتيجيًا، وليس انفعاليًا" وفق تعبيره.

ولفت المصدر إلى أنّ آفاق التهديدات الروسية "ستبقى مفتوحة طالما لم تُستأنف قنوات التفاهم النووي بين موسكو وواشنطن"، لكن باريس تراهن على أن "الردّ الأوروبي المشترك، سواء عبر الناتو أم الاتحاد، يجب أن يجمع بين الردع والاتصال"، أي الجمع بين الجاهزية العسكرية وإبقاء الباب مفتوحًا أمام الحوار النووي.

ونوه إلى أن ما يقلق باريس ليس احتمال استخدام السلاح النووي نفسه، إنما "تحوّل الخطاب النووي إلى أداة ضغط دائم على القرار الأوروبي". لذلك، يجري إعداد مقترحات داخل دوائر الاتحاد الأوروبي لإطلاق آلية تنسيق أمنية جديدة، تعزّز الاتصالات بين الحلف الأطلسي ومؤسسات الاتحاد، وتضمن وجود رد سياسي موحّد أمام أي تهديد نووي مستقبلي.

تباين أوروبي

وتبدو المواقف الأوروبية إزاء الخطاب النووي الروسي غير موحّدة رغم التنسيق الدبلوماسي الظاهر. فبينما تتبنّى باريس مقاربة تقوم على "الهدوء الاستراتيجي" وتجنّب الانزلاق إلى ردود حادّة، ترى وارسو أن أي تهاون في الردع سيُفسَّر ضعفًا، وتدفع باتجاه تعزيز الانتشار العسكري لحلف الناتو على الجبهة الشرقية، وذلك بحسب ما أفادت به مصادر دبلوماسية أوروبية لـ"إرم نيوز".

أخبار ذات علاقة

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

ترامب يُرحب بعرض بوتين بشأن الحد من انتشار الأسلحة النووية

برلين من جهتها، تميل إلى موقع وسطيّ بين الحذر الفرنسي والتشدّد البولندي. الحكومة الألمانية تعتبر أنّ التهديد النووي الروسي "جزء من لعبة الضغط"، لكنها لا تقلّل من مخاطره على الأمن الأوروبي، خصوصًا في ظل تراجع الثقة الشعبية بالحرب وتنامي التيارات الداعية إلى "الواقعية السياسية" في التعامل مع موسكو.

المصادر الأوروبية تحدّثت عن وجود نقاش أوروبي دائر حول إطلاق "مركز إنذار نووي أوروبي" يكون بمثابة آلية متابعة وتقدير مخاطر مستقلة داخل الاتحاد، لتقليص الاعتماد الكامل على تقديرات الناتو. الهدف وفق المصادر يتمثل بـ "فصل إدارة الخوف عن إدارة السياسة"، أي حماية القرار الأوروبي من التشنّج، دون إنكار الخطر نفسه.

في هذا المشهد، يبدو الاتحاد الأوروبي عالقًا بين رؤيتين؛ الأولى ترى أن التهديد النووي مجرّد أداة مساومة، والثانية تتعامل معه كاحتمال يجب الاستعداد له. وبين هاتين الرؤيتين، يتحدد شكل الموقف الأوروبي في المرحلة القريبة المقبلة، وما إذا كانت القارة قادرة على الحفاظ على وحدة قرارها رغم تصاعد الضغوط الروسية.

بين الردع والضغط

تتعامل موسكو مع الانقسام الأوروبي حول تقييم الخطر النووي كفرصة استراتيجية أكثر منها اختلافًا في المواقف. فكل تباين في اللغة بين باريس ووارسو أو تردّد في الموقف الألماني يُقدَّم في الإعلام الروسي بوصفه دليلًا على "انقسام الغرب" واهتزاز إرادته.

الخطاب الرسمي الروسي لا يركّز على التفوق العسكري بقدر ما يركّز على إظهار أوروبا ككتلة مرتبكة، تخشى التصعيد أكثر مما تسعى إلى إنهائه.

من وجهة النظر الروسية، لا حاجة لاستخدام السلاح النووي ما دام الخوف منه يحقق الغرض السياسي نفسه. فمجرّد التلويح به يخلق حالة من التردّد داخل المجتمعات الأوروبية، ويدفع بعض الأصوات إلى المطالبة بتقليص الدعم لأوكرانيا. هذا النوع من "الردع النفسي" هو ما تراهن عليه موسكو اليوم؛ من خلال إشاعة شعور بالعجز لدى الرأي العام الغربي، وتغذية الانقسام بين العواصم حول حدود المواجهة المقبولة.

لكن هذه الاستراتيجية تواجه حدودها أيضًا، فاستمرار التهديد دون ترجمة فعلية يُضعِف أثره بمرور الوقت، كما أن تصاعد الخطاب الروسي قد يدفع أوروبا نحو تعزيز التنسيق الأمني بدلًا من تفكيكه. في داخل أروقة القرار الأوروبي، بحسب مصادر "إرم نيوز"، يُنظر الآن إلى "التهديد النووي" بوصفه اختبارًا لإرادة القارة، أكثر منه تهديدًا وجوديًا مباشرًا. وكلما تكرّرت نبرة الوعيد من موسكو دون فعل، تقترب أوروبا خطوة إضافية من تجاوز مرحلة الخوف وبناء ردعها السياسي الخاص.

المحللة في الشؤون الأمنية الأوروبية، كلارا هوفمان، تشير في حديثها لـ"إرم نيوز" إلى أن موسكو تعتمد منذ أشهر سياسة "الرسائل المتدرجة" في خطابها النووي. "روسيا لا تُصدر تهديدات مباشرة، لكنها ترفع نبرة الحديث كلما رأت دعمًا غربيًا متقدمًا لأوكرانيا. التهديد الأخير يتجاوز التحذير التقني إلى رسالة سياسية مزدوجة؛ الأولى إلى واشنطن، بأن روسيا لن تلتزم بعد الآن بسقوف المعاهدات السابقة، والثانية إلى أوروبا، بأنّ أي تصعيد في دعم كييف قد يرفع المخاطر إلى مستوى غير قابل للسيطرة".

أخبار ذات علاقة

صواريخ Trident II D5 الباليستية

عبر الصواريخ النووية.. هل تتأهب واشنطن لمصارعة "الدب والتنين"؟

بهذه الطريقة، تحاول موسكو إعادة تعريف الردع؛ ليس فقط منع استخدام السلاح النووي ضدها، بل استخدام التهديد به لتقليص الدعم الغربي لخصومها. إنها عملية ضغط ممنهجة أكثر من كونها تعبيرًا عن نية حرب نووية، بحسب هوفمان.

وتلفت إلى أنّ محاولات موسكو لاستغلال الانقسامات الداخلية "لم تعد تجد نفس الأثر السابق"، لأنّ "المزاج السياسي الأوروبي بات أكثر واقعية، ويُفرّق بين الحوار الضروري والرضوخ للابتزاز".

وتؤكد هوفمان أنّ "القارة تجاوزت مرحلة الصدمة الأولى، وهي اليوم في طور إعادة بناء عقيدتها الأمنية بما يجعلها طرفًا فاعلًا".

واعتبرت أنّ "كل تهديد نووي روسي يقابله تطوّر جديد في التفكير الأمني الأوروبي"، فالدول الأوروبية لم تعد تكتفي بالاحتماء بالمظلّة الأمريكية، إنما بدأت "تبحث عن مقاربات مستقلة للردع، سواء عبر تطوير قدراتها الدفاعية أم عبر توحيد خطوط القرار السياسي داخل الاتحاد".

وتضيف أن "الخطأ الروسي هو في افتراض أن تهديد أوروبا سيجعلها أكثر انقسامًا، بينما المؤشرات الميدانية والسياسية تظهر العكس".

مواجهة التهديد الروسي بالثقة

الباحث في الشؤون الأوروبية، أمير عبد الجواد، اعتبر في حديثه لـ"إرم نيوز" أن أوروبا والولايات المتحدة تتعامل مع التهديدات النووية الروسية من زوايا مختلفة، لكنها تسعى إلى الهدف نفسه، والذي يتمثل بمنع موسكو من استخدام الخوف كأداة سياسية. 

وتابع عبد الجواد: "الأمريكيون يركزون على ضبط الإيقاع الدولي للأزمة، فيما تركز العواصم الأوروبية على حماية أمنها المباشر واستقرارها الداخلي. هذا التباين لا يعكس ضعفًا أو تباعدًا، بل اختلافا في مستوى القرب من الخطر. أوروبا تدير المواجهة على حدودها، والولايات المتحدة تديرها على مستوى التوازن الدولي. وفي النهاية، يبقى التنسيق بين الطرفين قائمًا، مع حرص أوروبي متزايد على أن تُدار الأزمة وفق مصالح القارة وليس وفق حسابات أخرى".

ويبدو أن تحوّل الخطاب النووي الروسي بات يمثل اختبارًا مباشرًا لقدرة أوروبا على إدارة الأزمات بهدوء، بحسب الباحث في الشؤون الأوروبية، فالتصعيد اللفظي من موسكو لم ينجح في خلق شرخ داخل الموقف الأوروبي، إنما أعاد التركيز على أهمية الموقف الموحد.

وأضاف "بدلًا من تفكيك الموقف الأوروبي، عزّزت هذه التهديدات قناعة لدى العواصم الكبرى بأنّ الردّ يجب أن يكون بالتماسك وليس بالمواجهة المباشرة. أوروبا اليوم تتعامل مع الخطاب الروسي بقراءة هادئة؛ تعتبر أن الردع الحقيقي هو في الاستمرار بالثبات على الموقف نفسه دون تراجع أو ضجيج".

أخبار ذات علاقة

بين التوماهوك والنووي.. هل يفتح بوتين الباب لحرب "هستيرية" في أوروبا؟

التوماهوك والنووي.. هل يفتح بوتين الباب لحرب "هستيرية" في أوروبا؟ (فيديو إرم)

فيما تتجه أوروبا اليوم إلى إعادة صياغة موقفها الأمني بلغة أكثر واقعية وشفافية أمام الرأي العام. فالخطر النووي، وفق الباحث أمير عبد الجواد؛ رغم طابعه التصعيدي، لم يعد يُنظر إليه كاحتمال وشيك، بل كوسيلة ضغط سياسية يجب إدارتها بالعقل لا بالخوف.

وختم بالقول: "تعمل العواصم الأوروبية حاليًا على تطوير آليات تواصل موحدة، وضبط الخطاب السياسي والإعلامي المرتبط بالأزمة".

الرسالة الأوروبية الأساسية اليوم واضحة بأن لا تنجرّ أوروبا إلى مواجهة لفظية، ولن تسمح في المقابل لأي تهديد بأن يحدّد إيقاع قراراتها. بهذا التوجه، تبدو القارة أكثر استعدادًا للتعامل مع المرحلة المقبلة من الحرب في أوكرانيا من موقع الفاعل.

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2025 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC