رئيس الموساد يعتبر أن على إسرائيل "ضمان" عدم استئناف إيران لبرنامجها النووي
يواجه رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، واحدة من أكثر الأزمات حساسية منذ توليه السلطة، بعد انهيار محاكمة تجسس نادرة متعلقة بالصين، وما تبعها من اتهامات لحكومته بالتساهل المتعمد مع بكين على حساب الأمن القومي.
القضية التي كشفتها صحيفة "التلغراف"، أثارت موجة من الجدل السياسي، خصوصاً بعد تورط أقرب مساعديه الأمنيين، جوناثان باول، في اتخاذ قرار مفصلي أدى عملياً إلى إسقاط التهم ضد مشتبهين بالتجسس.
بدأت الأزمة عندما أسقطت هيئة الادعاء الملكية البريطانية التهم الموجهة إلى مواطنين بريطانيين، هما كريستوفر كاش وكريستوفر بيري، اللذان كانا متهمين بجمع معلومات من داخل البرلمان البريطاني لصالح عضو بارز في الحزب الشيوعي الصيني بين عامي 2021 و2023.
وذكرت "التلغراف" أن القرار المفاجئ جاء بعد أن قررت الحكومة عدم السماح لوصف الصين بـ"العدو" في المحكمة، وهو شرط أساسي لإدانة المتهمين بموجب قانون الأسرار الرسمية.
اللافت أن هذا القرار لم يكن تقنياً بحتاً، بل سياسي الطابع. فبحسب التلغراف وصنداي تايمز، كان جوناثان باول، مستشار ستارمر الأمني الأعلى، هو من أوصى بعدم استخدام مصطلح "عدو"، مفضلاً الالتزام بالمصطلحات الواردة في الاستراتيجية الأمنية الوطنية الجديدة، التي تصف الصين بأنها "تحدٍّ جيوستراتيجي" وليس "تهديداً مباشراً"؛ وهذا التغيير في اللغة القانونية أدى إلى انهيار القضية بالكامل.
اشتعلت الانتقادات الموجهة للحكومة فوراً داخل مجلس العموم. فقد قال السير إيان دنكان سميث، أحد أبرز النواب المحافظين المناهضين للصين، إن القرار يعكس "خضوعاً مقلقاً للابتزاز الاقتصادي من بكين"، متسائلاً بسخرية: "إذا قال الرئيس شي جين بينغ اقفز، فهل تكتفي الحكومة البريطانية بسؤال: ما الارتفاع المطلوب؟".
واتهم سميث حكومة العمال بـ"التدخل غير المباشر" في مسار العدالة عبر الضغط على هيئة الادعاء، التي يُفترض أنها مستقلة؛ مُشيرًا إلى أن بكين ربما استخدمت التهديدات الاقتصادية لتليين موقف لندن في قضايا حساسة.
أما بريتي باتيل، وزيرة الداخلية في حكومة الظل، فذهبت أبعد من ذلك، إذ اتهمت حزب العمال بأنه "عرّض الأمن القومي البريطاني للخطر؛ بسبب تعاطفه السياسي مع الصين"، وطالبت المدعي العام اللورد هيرمر بالمثول أمام البرلمان لتفسير دور الحكومة في انهيار القضية.
أثارت القضية تساؤلات أعمق حول سياسة ستارمر تجاه الصين؛ فبينما تحافظ الحكومة على خطاب متشدد ظاهرياً، فإن قراراتها الميدانية توحي بعكس ذلك.
فباول، مهندس استراتيجية الأمن القومي، كان قد سافر إلى الصين سراً في يوليو الماضي لحضور اجتماع رسمي لم يُعلن عنه في لندن، كما يُعتقد أنه لعب دوراً في صفقة التنازل عن جزر تشاغوس، التي فُسرت دولياً كخطوة لتخفيف التوترات مع قوى آسيوية.
تقول مصادر برلمانية إن باول يرى الصين من "منظور واقعي"، يوازن بين التهديد الأمني وأهمية العلاقات التجارية والاستثمارية، بينما يرى منتقدوه أن هذا "الواقعية" تتحول إلى "تساهل خطير" عندما يتعلق الأمر بالتجسس والاختراقات السيبرانية.
وبدأت التداعيات السياسية تتسع؛ فإلى جانب دعوات المحافظين للتحقيق، طالب لوك دي بولفورد، أحد أبرز الناشطين المناهضين للصين، بإحالة الوزراء المتورطين إلى لجنة برلمانية مختارة، قائلاً إن "إسقاط القضية يمثل مثالاً واضحاً على التضحية بالأمن القومي مقابل المصالح الاقتصادية".
من جهتها، أكدت الحكومة أن القرار اتخذ "بشكل مستقل تماماً" من قبل هيئة الادعاء، ونفت وجود أي تدخل من داونينغ ستريت أو من السيد باول.
وجاء في بيان رسمي: "لم يطرأ أي تغيير جوهري على الأدلة المقدمة. السيد باول لم يتخذ أي قرار بشأن محتوى شهادة الشاهد، وأي مزاعم عن ضغوط من أعلى غير صحيحة تماماً".
لكن هذه التوضيحات لم تخفف من الغضب المتصاعد، خاصة أن توقيت إسقاط القضية تزامن مع مراجعة حكومة العمال لطلب الصين إنشاء سفارة ضخمة جديدة في لندن – وهو مشروع يحذر الخبراء من أنه قد يشكل تهديداً أمنياً إضافياً.
تتحول قضية "محاكمة التجسس المنهارة" بسرعة إلى اختبار جدي لقدرة كير ستارمر على الموازنة بين الواقعية الدبلوماسية والصرامة الأمنية؛ فبينما يسعى رئيس الوزراء لتقديم نفسه كزعيم "براغماتي" قادر على إصلاح علاقة بريطانيا بالعالم، يرى خصومه أن حكومته بدأت تفقد البوصلة بين حماية المصالح الوطنية ومغازلة القوى الكبرى.
في نهاية المطاف، تبدو الأزمة أكبر من مجرد قضية قانونية؛ إنها تمس جوهر استقلال القضاء البريطاني، وصورة المملكة المتحدة كقوة تقف بحزم أمام الأنظمة الاستبدادية.
وإذا لم ينجح ستارمر في إقناع الرأي العام بأن حكومته لم تتدخل فعلاً في هذه القضية، فقد يتحول انهيار المحاكمة إلى أخطر أزمة ثقة سياسية في عهده القصير حتى الآن.