بعد 3 سنوات من الصراع الدامي في أوكرانيا، تجد روسيا وحلف الناتو أنفسهم عند مفترق طرق حاسم، محاصرين في دائرة من انعدام الثقة والتصعيد العسكري الذي يهدد البنية الأمنية الأوروبية برمتها.
وما يغفل عنه كثيرون، أن في أوائل التسعينيات كان انضمام روسيا إلى الناتو احتمالًا واقعيًا، وقد فكر فيه القادة الغربيون والروس على حد سواء.
وتكشف الوثائق التاريخية الأخيرة أن أوروبا، لا سيما ألمانيا، لعبت دورًا حاسمًا في إحباط هذه المساعي، مما غير مسار السلام والحرب في القارة إلى الأبد، بحسب صحيفة "يوراسيان تايمز".
مع انحسار الحرب الباردة، قادت الولايات المتحدة سلسلة من معاهدات خفض الأسلحة: اتفاقية الصواريخ النووية متوسطة المدى (1987)، معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا (1990)، ومعاهدة ستارت 1 (1991) التي خفضت الترسانات النووية بين واشنطن وموسكو.
وشهدت تلك الفترة أيضًا إعادة توحيد ألمانيا سلمياً، بمغادرة 380 ألف جندي سوفيتي، بينهم فلاديمير بوتين، من ألمانيا الشرقية بعد سقوط جدار برلين.
في العام 1994، اقترح الرئيس الأمريكي بيل كلينتون على بوريس يلتسين ما كان يبدو مستحيلاً: عضوية روسيا في الناتو.
وكانت رؤية كلينتون قائمة على فكرة "أوروبا موحدة حقًا وغير قابلة للتجزئة"، وهو اقتراح كان يمكن أن يخفف التوترات ويضع الترسانة النووية الأوروبية تحت إشراف واحد، باستثناء الصين.
لكن الفكرة اصطدمت بمعارضة أوروبية قوية، بحسب أرشيفات ألمانية رفعت عنها السرية مؤخرًا؛ حيث حذّر القادة الألمان، خاصة وزير الدفاع فولكر روه، من أن ضم روسيا سيكون "ناقوس موت" للناتو.
لم تقتصر المخاوف على الثقة، بل شملت أيضًا بند الدفاع المشترك (المادة الخامسة)، خشية أن يُجبر الحلف على الدفاع عن روسيا في صراعات مستقبلية محتملة، حتى ضد قوى كبرى مثل الصين.
وأظهرت المراسلات الداخلية الألمانية أن الدبلوماسيين فضلوا الغموض علنًا لتجنب توتر العلاقات مع الكرملين، في حين كانت الرسالة داخل الاتحاد الأوروبي حاسمة: لن تحصل روسيا ولا دول سوفيتية أخرى على عضوية الناتو.
بحلول العام 1999، ضم الناتو بولندا، وجمهورية التشيك، والمجر، وجميعها كانت جزءًا من حلف وارسو سابقًا. وفي 2004، توسع الحلف، ليشمل: رومانيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وإستونيا، وبلغاريا، 3 منها جمهوريات سوفيتية سابقة.
ومع انضمام دول أخرى لاحقًا، بقيت روسيا مهمشة بشكل دائم.
وعلى الرغم من التعهدات الغربية خلال مفاوضات إعادة توحيد ألمانيا بأن الناتو "لن يتحرك شرقًا"، تم التخلّي عن هذه الوعود.
بالنسبة لموسكو، زرعت هذه الوعود الناقصة بذور التظلم التي ستغذي، لاحقًا، معارضة أي توسع إضافي، بما في ذلك في أوكرانيا.
لم يحافظ غياب روسيا عن الناتو فقط على خطوط الصدع الباردة، بل عمّقها؛ حيث ضغطت أوروبا وأمريكا على أوكرانيا للتخلّي عن ترسانتها النووية مقابل ضمانات أمنية (مذكرة بودابست، 1994).
لكن مع مرور الوقت، شاهدت روسيا توسع الناتو نحو مجال نفوذها، حتى بلغ ذروته في محاولة أوكرانيا الانضمام العام 2022، وهو أحد أسباب غزو موسكو.
اليوم، تحذّر دول شرق أوروبا، مثل إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وبولندا، من أن روسيا قد تستهدف إحدى دول الناتو بعد انتهاء الصراع في أوكرانيا، ما يجعل المواجهة المباشرة شبه حتمية.
خصص الناتو، الذي يضم، اليوم، 32 عضوًا، 5% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع، ويصف روسيا باستمرار بأنها "تهديد طويل الأمد" لأمن القارة.
تكشف الوثائق الألمانية الحديثة أن العداء الرئيس لا يقتصر على روسيا والولايات المتحدة، بل يشمل أوروبا الغربية أيضًا.
فالفشل في اغتنام الفرصة التاريخية لدمج روسيا، واختيار إستراتيجية التوسع شرقًا بدلًا من الشراكة، مهد الطريق للمواجهة الحالية.
وتبقى مساعي كلينتون لأوروبا موحدة فصلًا ضائعًا، يظل صداها حاضرًا مع كل تصعيد جديد في قلب القارة.
وتظهر مراجعة هذا التاريخ بوضوح أن فرصة السلام الدائم كانت في متناول اليد، وأن خيارات قادة أوروبا في التسعينيات كانت حاسمة في تشكيل أكثر الأزمة الأمنية خطورة في أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة.