قال خبراء إن قمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في قمة ألاسكا أخيراً، شهدت اتفاقاً سرياً يتعلق بمستقبل المحكمة الجنائية الدولية، رغم الخلافات العديدة بين واشنطن وموسكو حول الحرب في أوكرانيا والأمن الأوروبي وحلف الناتو.
ويرجّح الخبراء أن القمة حملت توافقاً يهدف إلى تقليص دور هذه المؤسسة القضائية وتجفيف منابع تمويلها، في ظل ملاحقة المحكمة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الحليف التقليدي للرئيس الأمريكي، بتهم جرائم حرب في غزة.
وفي الوقت نفسه، يتفق الرئيس الروسي مع هذه السياسة، في ظل ملاحقته هو الآخر من قبل المحكمة منذ عامين بتهمة النقل القسري للأطفال الأوكرانيين إلى روسيا.
وكانت إدارة ترامب قد فرضت عقوبات على قاضيين ومدعين اثنين بالمحكمة الجنائية الدولية، في إطار ضغوط متواصلة على المؤسسة بسبب ما وصفته بـ"استهداف قادة إسرائيليين".
كما أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية بياناً، عبر وزيرها ماركو روبيو، ندّد فيه بما اعتبره "تسييس المحكمة، وإساءة استخدامها للسلطة، وتجاهل السيادة الوطنية الأمريكية"، مؤكدا أن العقوبات الإضافية تأتي رداً على التهديد المستمر ضد الأمريكيين والإسرائيليين.
ويقول الخبير الإستراتيجي والأمني، عبد الرحمن مكاوي، إن الحرب المعلنة من واشنطن ضد المحكمة الجنائية الدولية تأتي في ظل أن الولايات المتحدة ليست عضواً في المحكمة، ولم توقع على اتفاقية روما المؤسسة لهذه الهيئة العدلية الدولية.
وأضاف أن اللوبي الإسرائيلي في أمريكا، إلى جانب "الإنجيليين الجدد" الذين يشكلون الرافعة الأساسية لدعم ترامب، يضغطون بشكل كبير على الإدارة الأمريكية لحل المحكمة، خاصة أنها تتابع عدداً من القادة الإسرائيليين وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو، إضافة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ورجح مكاوي، لـ"إرم نيوز"، وجود اتفاق غير معلن جمع ترامب وبوتين خلال قمة ألاسكا حول الملف، يتضمن تقزيم وتحجيم عمل المحكمة، وتجفيف منابع تمويلها.
وأشار إلى أن الولايات المتحدة واللوبي الإسرائيلي يمتلكان وسائل ضغط متعددة للحد من عمل المحكمة ومعاقبتها، بما قد يؤدي مستقبلًا إلى إعلان مجلس الأمن حلها بموافقة روسية أمريكية، أو توجيهها لتصبح أداة انتقائية تعكس مصالح الدول العظمى، لا سيما أن ترامب وبوتين يتقاسمان عدم الرغبة في استمرار عمل المحكمة بشكل كامل.
وأوضح مكاوي أن اللوبي الإسرائيلي في واشنطن شن حملة كبيرة ضد المدعي العام وعدد من القضاة بالمحكمة، إضافة إلى ممارسة ضغوط على الدول الأوروبية المؤسسة لقطع منابع التمويل عنها.
بدوره، يؤكد المختص في القانون الدولي، خالد شيات، أن ما يحدث مع المحكمة الجنائية الدولية على يد إدارة ترامب يعكس محددات دولية مهمة، أولها أن قيم ومؤسسات الحقوق والعدالة التي وُضعت بعد الحرب العالمية الثانية لخلق عالم متوازن لم تعد حاضرة، لأنها لم تعد تتوافق مع مصالح القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
وأضاف شيات، لـ"إرم نيوز"، أن الهجوم على المحكمة يعد نتيجة طبيعية لعودة "اليمين المتطرف" إلى السلطة في الولايات المتحدة وأوروبا، وهو تيار يمجد قيمًا متطرفة ويعتمد على نبوءات دينية، وهو ما يتعارض مع القيم الإنسانية والعدالة التي تأسست عليها المحكمة، مما أدى إلى الحملة الكبيرة التي تشنها إدارة ترامب ضدها.
وأوضح شيات أن المحدد الثاني لهذا الهجوم مرتبط بالتحالف التاريخي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، حيث تعتبر أي مساس باستقرار إسرائيل تهديدًا لأمريكا أيضًا، وهو ما تجسد في فرض عقوبات على 4 قضاة بالمحكمة دون تقديم أي ضمانات لحماية عملهم.
من جهته، يؤكد أستاذ العلاقات الدولية، أحمد العلوي، أن استمرار عمل قضاة المحكمة الجنائية الدولية رغم العقوبات الأمريكية يثبت أن المحكمة ليست مجرد أداة في يد الأقوياء، بل تعمل على أن تصبح خلال العقود المقبلة وسيلة عدالة تنفيذية فعالة.
وأوضح العلوي، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن إجراءات إدارة ترامب بفرض عقوبات على المحكمة كان لها أثر كبير على المجتمعات الأوروبية والدولية، حيث ضغطت على دولها لاتخاذ مواقف من إسرائيل ونتنياهو بسبب جرائمه في غزة. وأضاف أن هذا الضغط ساهم في إعلان بعض الدول ذات الوزن الدولي الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مستفيدين من المذكرات القضائية التي تصدر عن المحكمة بشأن الجرائم التي تُبث على الملأ.
وأشار العلوي إلى أن العقوبات الأمريكية على المحكمة، التي جاءت بطريقة متعالية متجاوزة المواثيق والأعراف الدولية، شكلت ضغوطاً على إسرائيل وأظهرتها كدولة ترتكب انتهاكات وجرائم، بعد أن كانت تحاول تقديم نفسها دائماً كدولة ضحية للعداء الإقليمي وتتسابق نحو السلام، وهو ما تغير بشكل واضح خلال العامين الأخيرين.
ورجح شيات أن المحكمة الجنائية الدولية قد تصبح نموذجاً للمنظمات الدولية التي يمكن المساس بها كلما تعارضت مصالح الولايات المتحدة واليمين المتطرف مع منصتها القانونية والقيم التي تحميها.