وضع حزب العمال الكردستاني أنقرة في موقف الرد بخطوة مقابلة عندما بادر بإعلان سحب مقاتليه من الأراضي التركية، في أحدث تقدم لعملية السلام الجارية، التي يراد لها أن تنهي صراعًا مسلحًا استمر أكثر من 40 عامًا.
وتضمن بيان الانسحاب الذي ألقاه قياديون في حزب العمال، ظهر الأحد الماضي، قرب سفح جبل قنديل في محافظة السليمانية بإقليم كردستان العراق، دعوة صريحة لأنقرة كي تسمح للزعيم التاريخي للحزب، عبد الله أوجلان، أن يشارك بشكل فعلي في عملية السلام.
وقال القيادي البارز في أحد تشكيلات الحزب، صبري أوك، في البيان، إن على لجنة السلام التي تضم ممثلين عن الأحزاب في البرلمان التركي، لقاء أوجلان والاستماع إلى آرائه، "فهو من سيدفع هذه العملية قدمًا. هذا ما نأمله".
تمثل الدعوة للقاء أوجلان في سجنه بجزيرة "إيمرالي" غرب تركيا، ومشاركته المباشرة في مفاوضات السلام بين أنقرة وحزبه، مستوى أقل من الوعد الذي قطعه زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، الذي وعد بحضور أوجلان إلى البرلمان ذاته وإلقاء خطاب فيه إذا دعا حزبه ليحل نفسه ويلقي مقاتلوه السلاح.
لكن بهتشلي الذي يمثل حزبه التيار القومي التركي، واجه اعتراضات الحكومة المتحالف معها، والأحزاب السياسية الأخرى حول مقترحاته التي تتعلق بلقاء أوجلان أو حضوره إلى البرلمان، رغم دعم مبادرته للسلام.
وتعرض بهتشلي قبل أيام، لانتقادات من مسؤولي أحزاب أخرى، بينها حزب "الرفاه من جديد" ذو التوجه الإسلامي، عندما دعا زعيمه فاتح أربكان، إلى أن يذهب بهتشلي بنفسه ويقابل أوجلان الذي لا يزال يوصف مع حزبه من قبل أنقرة بـ "الإرهابيين".
يستند الاعتراض على لقاء أوجلان أو حضوره إلى البرلمان التركي، إلى عقود من الصراع المسلح بين الحزب وأنقرة، الذي خلّف عشرات آلاف الضحايا منذ بداية ثمانينيات القرن المنصرم، وترك انقسامًا في البلاد حول صحة اعتباره ممثلًا لأكراد تركيا.
وتشير الحكومة التركية على الدوام، في بيانات مسؤوليها، إلى حساسية عملية السلام الجارية، بينما شملت لقاءات لجنة السلام البرلمانية عائلات من ضحايا الصراع وضباط وجنود متقاعدين ضمن جلسات نقاشية شهدت اعتراضًا على لقاء أوجلان أو اعتبار حزبه ممثلًا لأكراد تركيا.
وقال وزير العدل التركي، يلماز تونتش، عقب بيان حزب العمال الكردستاني حول انسحاب مقاتليه من تركيا: "إن إرث شهدائنا الأبرار الذين ضحوا بأرواحهم من أجل وطننا سيظل محميًّا دائمًا، وسنتخذ القرارات اللازمة بما يتماشى مع مصالح أمتنا العزيزة".
تستعد الحكومة التركية لاتخاذ خطوات من جانبها تتعلق بعملية السلام، وفق ما أعلن الوزير تونتش ضمن ترحيب حكومي بالانسحاب.
وقال إن بلاده أصبحت أقرب من أي وقت مضى إلى هدفها المتمثل في "تركيا خالية من الإرهاب"، وهو الاسم الذي تطلقه أنقرة على عملية السلام الجارية مع حزب العمال الكردستاني.
وأضاف تونتش أن وزارة العدل ستشارك نتائج عمل لجنة السلام البرلمانية (تطلق عليها أنقرة اسم: لجنة التضامن الوطني والأخوة والديمقراطية) مع أعضاء البرلمان، وسيتم تقييم الخطوات التي يتعين اتخاذها لتعزيز التكامل الاجتماعي.
ولم يشر تونتش لإمكانية لقاء اللجنة مع أوجلان أو حضوره للبرلمان، لكنه قال إن نتائج وقرارات لجنة السلام "ستشكل دليلًا لخطواتنا المستقبلية وتضع خريطة طريق قوية لتعزيز وحدتنا الوطنية وأخوتنا".
تزامن حديث الوزير تونتش مع دعوة المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم، عمر تشيليك، الأحزاب السياسية التركية بمختلف توجهاتها لدعم عملية السلام بما يتماشى مع "خصائص دولتنا وقيم أمتنا".
وقال تشيليك إنه من الآن فصاعدًا، سيتم ضمان اتخاذ خطوات لاستمرار عملية نزع السلاح دون انقطاع، وسيتضح الإطار الإيجابي الذي حددته لجنة التضامن الوطني والأخوة والديمقراطية مع استمرار عملية نزع السلاح.
وسيشهد يوم الخميس المقبل لقاءً بين الرئيس رجب طيب أردوغان والنائبين برفين بولدان وميثات سنجار، وهما عضوان بارزان في حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب.
وسينتقل بولدان وسنجار، عقب لقاء أردوغان مباشرةً، إلى جزيرة "إيمرالي" للقاء أوجلان، بصفتهما عضوين في لجنة "إيمرالي" التي تتوسط بين الزعيم الكردي في سجنه والجانب التركي.
وقال المحلل السياسي التركي، علي أسمر، إن الملف الأبرز المطروح حاليًّا يتعلق بكيفية التعامل مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني المنسحبين، ومسألة تخفيف الحكم عن عبد الله أوجلان التي تُعد اختبارًا حقيقيًّا لجدية الدولة في الانتقال من الأمني إلى السياسي.
وأضاف أسمر في حديث مع "إرم نيوز"، أن "وجود لجنة برلمانية لمتابعة هذه الملفات يوضح أن أنقرة تتحرك بخطوات محسوبة لتفادي أي فراغ أو انفلات".
وأوضح أسمر، الذي تحدث من إسطنبول، أن المؤشرات الحالية تدل على أن تركيا تسعى هذا العام إلى تثبيت معادلة "تركيا بلا إرهاب" كإطار وطني جامع، على أن تبدأ النتائج الملموسة بالظهور خلال عام 2026.
ويطالب حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب، وهو أكبر حزب ممثل للأكراد في البرلمان، أنقرة باتخاذ خطوات في عملية السلام، بينها لقاء لجنة السلام البرلمانية مع أوجلان، وسن تشريعات تتعلق بمصير مقاتلي الحزب تسهل عودتهم إلى تركيا، وإطلاق سراح سياسيين أكراد مسجونين، بينهم صلاح الدين ديميرتاش، الذي تقول إن خروجه يدعم عملية السلام.
وجدد الحزب تلك المطالب، يوم أمس الاثنين، عبر رئيسيه المشتركين، تونجر باكيرهان وتولاي حاتم أوغولاري، في مؤتمر صحافي عقداه في أنقرة للتعليق على انسحاب مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذي يتزامن مع مرور عام على دعوة بهتشلي لحل الحزب وإلقاء السلاح.
وقال باكيرهان: "لقد حان الوقت للانتقال إلى السلام الاجتماعي من خلال خطوات قانونية وسياسية لتعزيز الحقوق والحريات، وتعزيز لغة السياسة والديمقراطية. يجب أن يكون القانون أساسًا لمستقبل يسوده السلام والعدالة".
وأضاف: "يجب فتح المسارات، ويجب توفير الفرص لأوجلان ليأخذ زمام المبادرة ويلعب دورًا أكثر فاعلية، وتسهيل الحوار معه، وتهيئة ظروف العمل والتواصل والعيش بحرية له".
على الجانب الآخر، تفصل الحكومة التركية بين مسار حل حزب العمال الكردستاني وإلقاء مقاتليه للسلاح، ومسار "تعزيز الديمقراطية" الذي يتضمن تحقيق مطالب لأكراد تركيا تتعلق بلغتهم الأم وإدخالها النظام التعليمي وتعزيز المساواة في البلاد.
وتواجه عملية السلام عقبة أخرى تتعلق بمطالب أنقرة حول ضرورة أن تشمل دعوة أوجلان قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تحكم مناطق واسعة في شمال شرقي سوريا، بحيث تندمج في الجيش السوري الجديد الذي تشكله حكومة حليفة لها، تضم فصائل معارضة لنظام بشار الأسد الذي سقط في نهاية العام الماضي.