أثار انسحاب عناصر حزب العمال الكردستاني نحو الداخل العراقي، موجة من القلق في الأوساط السياسية والأمنية في بغداد وأربيل، وسط تحذيرات من تداعيات معقدة قد تضع العراق في قلب صراع إقليمي متجدد بين أنقرة والحزب، الذي خاض معها حربًا استمرت أكثر من أربعة عقود.
وتأتي هذه التطورات بعد إعلان الحزب، الأحد، سحب جميع مقاتليه من تركيا إلى شمال العراق، في خطوة وُصفت بأنها جزء من "عملية السلام" التي ترعاها لجنة برلمانية تركية تسعى لتطبيع العلاقة مع الأكراد، وتهيئة الظروف القانونية لتحويل الحزب من العمل المسلح إلى النشاط السياسي.
وبحسب بيان للحزب، نُشر عبر وكالة "فرات" المقربة منه، فإن "الانسحاب يهدف إلى تجنب وقوع صدامات محتملة وإزالة الأرضية لأي أحداث غير مرغوبة"، في وقت دعا فيه الحزب إلى إصدار قانون عفو خاص يسمح لمسلحيه بالاندماج في الحياة السياسية، ويضمن حرياتهم وحقوقهم الدستورية.
وشهدت مراسم رمزية في جبال قنديل شمال العراق حضور نحو 25 مقاتلًا، بينهم قياديون بارزون، أعلنوا خلالها عن "خطوة السلام الأولى"، ملوحين بصورة مؤسس الحزب عبد الله أوجلان المعتقل في تركيا منذ عام 1999.
وبهذا الصدد، أوضح عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني، محمد زنكنة، أن "عددًا محدودًا جدًّا من المسلحين التابعين لحزب العمال الكردستاني ما زال داخل تركيا، بينما يتركز وجودهم الفعلي داخل إقليم كردستان والأراضي العراقية".
وأضاف زنكنة، لـ"إرم نيوز"، أن "مجرد نقل هذه الأعداد القليلة إلى الداخل العراقي سيُثقل كاهل الحكومة في بغداد؛ لأنها لا تمتلك خيارات واضحة للتعامل مع الموقف، فالقرار بيد تركيا أولًا وأخيرًا، فيما تبقى الحكومة العراقية بلا إرادة حقيقية، بين ضغوط أنقرة من جهة، وتأثيرات طهران على عناصر الحزب من جهة أخرى".
ويعكس هذا التطور، وفق مراقبين، مرحلة مفصلية في العلاقات العراقية – التركية، خصوصًا أن البرلمان التركي مدد مؤخرًا تفويض قواته المنتشرة داخل الأراضي العراقية لثلاث سنوات إضافية، في وقت تخشى فيه بغداد أن يُستخدم الإقليم الكردي كمنطقة عازلة لتسوية الصراع التركي – الكردي، بعيدًا عن الأراضي التركية.
كما أن وجود مقاتلي الحزب في مناطق مثل قنديل ومخمور وسنجار، ظلّ منذ الثمانينيات أحد أبرز أسباب التوتر بين البلدين، ودفع أنقرة إلى تنفيذ عشرات العمليات العسكرية داخل الحدود العراقية بحجة "مطاردة الإرهاب".
من جانبه، أكد عضو الاتحاد الوطني الكردستاني، أحمد الهركي، أن "الحدث مهم جدًّا، لكنه يضع الكرة الآن في ملعب الحكومة التركية التي يُفترض أن تتخذ خطوات عملية لتعزيز الثقة واستكمال مسار السلام".
وأضاف الهركي، لـ"إرم نيوز"، أن "أنقرة مطالبة بإنهاء الملف سياسيًّا؛ لأن أي تلكؤ سيعيد الأوضاع إلى المربع الأول، خصوصًا أن وجود عناصر الحزب في الأراضي العراقية تسبب بأزمات أمنية متكررة منذ ثمانينيات القرن الماضي، تزامنًا مع استمرار العمليات العسكرية التركية داخل العراق".
ويرى مراقبون أن الانسحاب يطرح تساؤلات حول الوضع القانوني للمسلحين الذين دخلوا الأراضي العراقية، خصوصًا أن البيان لم يُشر إلى أي تنسيق مسبق مع الحكومة في بغداد أو حكومة إقليم كردستان، ما يضع الملف في دائرة التعقيد القانوني والدبلوماسي.
ويشير قانونيون إلى أن دخول عناصر أجنبية مسلحة إلى أراضي دولة أخرى من دون تفويض رسمي أو تنسيق حكومي، يُعد خرقًا للسيادة، ويقع ضمن طائلة القوانين العراقية والدولية.
وفي هذا السياق، أوضح الخبير القانوني، علي التميمي، أن "دخول مقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى العراق لا يمكن اعتباره طبيعيًّا؛ لأنهم ليسوا مواطنين عراقيين، بل ينتمون إلى تنظيم مسلح أجنبي يعمل ضد دولة أخرى".
وأضاف التميمي، لـ"إرم نيوز"، أن "هذا الدخول يُعد تجاوزًا للحدود وخرقًا لقانون الجوازات العراقي، ويخضع للعقوبات المقررة بحق كل جهة مسلحة أجنبية تستخدم الأراضي العراقية منطلقًا لأعمال عسكرية ضد دولة مجاورة".
وأشار إلى أن "الاتفاقات الجارية بين الحزب وتركيا، التي سمحت بهذا الانسحاب، تُعد في جوهرها خرقًا للسيادة العراقية ما لم تُبلغ بها الحكومة رسميًّا؛ لأن أي نشاط أو وجود مسلح أجنبي داخل العراق يتعارض مع الدستور ويُعدّ انتهاكًا لمبدأ حسن الجوار".
وكانت أنقرة قد رحّبت بإعلان الحزب، واعتبر حزب العدالة والتنمية الحاكم أن "الخطوة تمثل نتيجة ملموسة للتقدم المُحرز في عملية نزع السلاح"، مشيرًا إلى أن بلاده "تسعى لإنهاء عقود من النزاع وفتح صفحة جديدة مع المكوّن الكردي".
غير أن محللين يرون أن المسار ما يزال في بدايته، وأن أي تقدم فعلي في "عملية السلام" سيبقى مرهونًا بتطورات الوضع الميداني والسياسي، وبمدى استعداد أنقرة لتقديم تنازلات في ملفات الهوية والحقوق الثقافية للأكراد داخل تركيا.