رغم انسحاب مجموعة "فاغنر" من مالي في 6 يونيو 2025، إلا أن المشهد لم يتغير فعلياً؛ فما بدا وكأنه خروج درامي لم يكن سوى عملية تجميلية، إذ سرعان ما ملأ "فيلق إفريقيا" التابع لوزارة الدفاع الروسية الفراغ.
إن هذه العملية ليست مغادرة بل تعميق للوجود الروسي في غرب أفريقيا، بغطاء أمني، وباطن اقتصادي، وبشعارات مناهضة للاستعمار تخفي أطماع موسكو الحقيقية.
منذ العام 2012، غرقت مالي في أزمات متتالية؛ من تمرد الطوارق في الشمال، وانقلاب عسكري في باماكو، ثم تمدد الجماعات المتشددة المرتبطة بالقاعدة.
ولم تجلب التدخلات الدولية، من عملية "برخان" الفرنسية إلى بعثة الأمم المتحدة "مينوسما"، الاستقرار، بل زرعت استياءً شعبياً عميقاً؛ وبحلول 2022، انسحبت فرنسا بقواتها، وتبعها خروج الأمم المتحدة العام 2023، تاركة مالي وحيدة أمام الفوضى.
وأصرّ الغرب على انتخابات وحكم مدني، لكن ما قدّمه الروس كان مختلفاً: "أمن بلا شروط"؛ حيث وجد الكولونيل عاصمي غويتا، قائد المجلس العسكري، في موسكو شريكاً عملياً، فيما وجدت روسيا ثغرة مثالية للتوسع على حساب الفشل الغربي.
بعد تمرد فاغنر ومقتل مؤسسها بريغوجين، العام 2023، سارع الكرملين إلى إعادة هيكلة عملياته، من خلال دمج 70 – 80% من عناصر فاغنر في "فيلق أفريقيا"، قوة رسمية تحت وزارة الدفاع والاستخبارات العسكرية الروسية.
وبينما كان التحول واضحاً؛ عملت فاغنر كقوة مظلمة تمنح الكرملين إنكاراً معقولاً لجرائم الحرب والنهب؛ أما "فيلق أفريقيا" فيقدم وجهاً علنياً ومنظماً، من تدريب للقوات المحلية، وحماية المنشآت، وإشراف مباشر من موسكو.
بينما كانت الخسارة الوحيدة لروسيا "الإنكار"، لكنها كسبت السيطرة الدائمة والشرعية الشكلية.
ويتجاوز رهان روسيا في مالي السياسة إلى مناجم الذهب؛ إذ وفرت العقوبات الغربية بيئة خانقة لأسواقها، فيما ظلت صادرات الذهب المالي بعيدة عن هذه القيود، لتُهرَّب وتُباع كذهب "نظيف"، يدر على روسيا مليارات كل عام.
ويضخ الذهب المالي ما بين 800 مليون إلى مليار دولار سنوياً في خزائن موسكو، تتحول مباشرة إلى وقود للحرب الأوكرانية، بينما يصفه الغرب بـ"الذهب الملطخ بالدماء"؛ وبإضافة السودان وأفريقيا الوسطى، تقفز العائدات الروسية ما بين 2.5 إلى 3.5 مليار دولار.
وإلى جانب الموارد، تعتمد روسيا على قوة السرد؛ فهي تُعيد تدوير إرثها في دعم حركات التحرر، وتقدّم نفسها كبديل "غير استعماري"؛ وفي ظل محدودية الإعلام المحلي، تلقى روايتها رواجًا، مستندة إلى تغذية العداء لفرنسا، وتشويه صورة الغرب.
وإذا كانت أدوات "فاغنر" الإعلامية تقف عند الإشاعات والتضليل عبر "وكالة أبحاث الإنترنت"، فإن "فيلق أفريقيا" تجاوز ذلك؛ فقد دشنت موسكو العام 2024 مدرسة صحافة في باماكو، تكفلت برعاية إذاعات محلية وبث محتوى مؤيد للكرملين، ما منح روايتها حضورًا راسخًا في المجتمع المالي.
ويتجاوز الحضور الروسي في مالي حسابات النفوذ المباشر، فهو جزء من سردية الكرملين عن بناء عالم "متعدد الأقطاب"، كما يُعيد بوتين تصوير روسيا كقوة حضارية تدافع عن "التقاليد" في مواجهة "العولمة"، واضعًا أفريقيا في قلب هذا المشروع، ومالي كنقطة ارتكاز لا غنى عنها.
ربما تبدّل الزي من الأسود العسكري لفاغنر إلى الرسمي لـ"فيلق أفريقيا"، لكن اللعبة لم تتغير: موسكو تُحكم قبضتها على مالي لاستغلال مواردها، متسترة وراء خطاب "مناهضة الاستعمار"، فيما الحقيقة أنها تموّل حربها في أوكرانيا، وتبحث عن تثبيت موقعها كقوة عظمى على حساب أفريقيا.