أكد الأستاذ في كلية الاستشراق بالمدرسة العليا في موسكو، رامي القليوبي، أن التصريحات الأخيرة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن عدم الحاجة لاستخدام السلاح النووي تعكس تحولًا واضحًا في التوجه الروسي، مدفوعًا بواقع ميداني وضغوط دولية، أبرزها من الصين.
وقال القليوبي، في حوار مع "إرم نيوز"، إن تهديدات الولايات المتحدة بالانسحاب من ملف الوساطة لا تعني تخليًا فعليًا عن أوكرانيا، بل هي جزء من أدوات الضغط السياسي، وتهدف أساسًا إلى دفع كييف نحو القبول بتسوية واقعية.
وأضاف: واشنطن تدرك أن الضغط الفعال يجب أن يُمارس على "الطرف الأضعف" في المعادلة، وهو أوكرانيا، التي أكد أنها تواجه تراجعًا ميدانيًا وتعتمد كليًا على الدعم الغربي، فيما تجاوزت روسيا مرحلة الصدمة الاقتصادية وتكيفت مع العقوبات الدولية.
ورأى القليوبي أن رفض أوكرانيا هدنة عيد النصر ليس مفاجئًا، وأن مطلب كييف بهدنة طويلة هدفه "استغلال التوقف المؤقت في إعادة التموضع والتسلّح". وهو ما ترفضه موسكو دون تفاهمات مباشرة، ما يعكس استمرار أزمة انعدام الثقة بين الطرفين.. وإلى نص الحوار.
استخدام الأسلحة النووية كان احتمالًا مطروحًا بجدية في خريف 2022، حينما بدأت القوات الأوكرانية تحقق مكاسب ميدانية في خاركيف وخيرسون، وفي ذلك الوقت، شعر الغرب أن التهديدات النووية الروسية قد تكون جدية، ما دفعه لإيصال رسائل واضحة لروسيا بعدم تجاوز هذا الخط.
ويبدو أن موسكو تلقت ضمانات بعدم السماح بهزيمتها عسكريًا، ولاحقًا، تغيرت المقاربة الغربية إلى دعم تدريجي يستهدف إنهاك روسيا لا كسرها.
ومنذ زيارة الرئيس الصيني شي جي بينغ إلى موسكو في مارس آذار 2023، أصبح جليًا أن موسكو لن تلجأ للخيار النووي دون عواقب دولية حتى من أقرب حلفائها، وهو ما يفسر تراجع هذا الطرح من الخطاب الروسي.
التهديدات الأمريكية تبدو جادة، لكنها موجهة بشكل أساسي نحو كييف أكثر من موسكو، وواشنطن تسعى إلى دفع الطرف الأضعف -وهو أوكرانيا- نحو تقديم تنازلات، في ظل تراجعها ميدانيًا واعتمادها الكامل على الدعم الغربي.
وفي المقابل، روسيا تبدو أقل تأثرًا بالضغوط، بعد أن عززت اكتفاءها الذاتي من التسليح، وتحالفت مع دول مثل كوريا الشمالية ميدانيًا، وتوسعت اقتصاديًا باتجاه آسيا وأفريقيا، وبالتالي، واشنطن لن تنسحب كليًا من الملف، بل تستخدم هذه التصريحات كأداة ضغط تفاوضية، مع إبقاء أوراقها مفتوحة.
هذه ليست المرة الأولى التي تعلن فيها روسيا عن هدنة إنسانية خلال المناسبات الدينية أو الوطنية؛ فقد سبقتها هدنة في عيد الفصح، ورغم الانتقادات، فإن تلك الهدنة نجحت نسبيًا، حيث ساد الهدوء المدن الأوكرانية، ولم تُسمع صافرات الإنذار.
والانتهاكات التي وقعت سابقًا كانت في المناطق الحدودية، وليس في العمقين الروسي أو الأوكراني. وإن إعلان هدنة عيد النصر يتماشى مع سعي موسكو لتأكيد صورتها كدولة مسؤولة أمام المجتمع الدولي، قادرة على الفصل بين القتال وتقدير الرمزية التاريخية للأحداث.
الرفض الأوكراني يرتكز على قناعة بأن 3 أيام لا تكفي لتحقيق أي تقدم سياسي أو تفاوضي حقيقي، وأن هدنة فعالة تتطلب فترة أطول لا تقل عن 30 يومًا، لكن من وجهة نظر روسيا، هذا الطرح غير مقبول، خاصة في ظل انعدام الثقة، إذ تخشى موسكو أن تستغل كييف تلك المهلة لإعادة ترتيب صفوفها والحصول على دعم تسليحي جديد.
لذلك، تشترط روسيا أن تكون الهدنة الطويلة الأمد جزءًا من اتفاقات واضحة أو مفاوضات مباشرة، لا مبادرة منفردة من الطرف الأوكراني.
تصريحات زيلينسكي تندرج ضمن إطار الحرب النفسية، وتهدف إلى الضغط على الشركاء الأوروبيين. ومن مصلحة كييف أن تحافظ على صورتها كدولة لا تستهدف المدنيين أو المسؤولين الأجانب، خاصة خلال مناسبات رمزية مثل العرض العسكري الروسي.
موسكو بدورها تتعامل مع هذه المناسبات بحس أمني عالي، لضمان حماية الوفود وإظهار هيبة الدولة، وبالتالي، فإن هذه التصريحات لا تعكس بالضرورة قلقًا حقيقيًا بقدر ما تهدف إلى التأثير في حسابات العواصم الأوروبية.
ميدفيديف، الذي كان يُنظر إليه في السابق كوجه ليبرالي يسعى لتحسين العلاقات مع الغرب، تحول في السنوات الأخيرة إلى أحد أكثر الشخصيات تشددًا في الخطاب الروسي، ومع أنه يشغل حاليًا منصبًا مهمًا في مجلس الأمن القومي، إلا أن تصريحاته غالبًا ما تُفسَّر بوصفها تحذيرية لا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي.
وداخليًا، هناك انتقادات في روسيا لهذا النوع من الخطاب، لأنه مع كثرة التلويح دون تنفيذ، تفقد الأسلحة النووية قيمتها الردعية.
الهجمات الأوكرانية على القرم ليست تطورًا جديدًا، بل تأتي في سياق سلسلة من الضربات المستمرة منذ سنوات. وكييف تعتبر القرم جزءاً من أراضيها، وتستند إلى القانون الدولي في رفض الاستفتاء الروسي الذي ضم شبه الجزيرة عام 2014.
لذلك، هذه الهجمات تحمل طابعًا رمزيًا وسياسيًا أكثر من كونها مؤشرًا على تحول استراتيجي في موازين القوى أو رد فعل مباشرا على خسائر في جبهات أخرى.
هذا النوع من التصريحات يندرج ضمن محاولات كييف للضغط السياسي لا أكثر، لأنها لا تملك فعليًا أدوات عقوبات يمكن أن تؤثر على الغرب.
وحتى الورقة التي كانت تمثل نقطة قوة -وهي خط ترانزيت الغاز- فقدت تأثيرها مع توقف الإمدادات عبر أوكرانيا بداية هذا العام، دون أن تواجه أوروبا أزمة طاقة خانقة.
وبالتالي، فإن هذه التهديدات تبدو غير واقعية، وتعكس ضيق الخيارات الأوكرانية أكثر من كونها سياسة فعالة.
المشهد مفتوح على 3 سيناريوهات، والأكثر تفاؤلًا هو أن يتمكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من التوصل إلى اتفاق يرضي كلًّا من موسكو وكييف، مما قد يؤدي إلى تسوية شاملة.
أما السيناريو الثاني، فهو اتفاق بين ترامب وزيلينسكي فقط، ما يعني استمرار روسيا في عملياتها العسكرية.
في حين أن السيناريو الثالث يتمثل في اتفاق بين ترامب وبوتين فقط، ما قد يدفع واشنطن إلى فرض تسوية على كييف وفق الشروط الروسية، باستخدام الضغوط بدل الحوافز.
وفي كل الأحوال، يبقى مصير الحرب معلقًا على مدى استعداد الأطراف لقبول تنازلات متبادلة.