رأى خبراء سياسيون أن انسحاب الولايات المتحدة من أفريقيا، في ظل توجهات الرئيس دونالد ترامب الانعزالية، سيُحدث فراغًا استراتيجيًا كبيرًا في القارة السمراء.
وأشاروا إلى أن ذلك قد يفتح الباب أمام تصاعد نفوذ قوى أخرى، على رأسها الصين وروسيا، في وقت تجد فيه فرنسا نفسها أمام اختبار حقيقي لاستعادة دورها التقليدي في أفريقيا، أو أن تقبل بالتراجع أمام طموحات شركاء منافسين.
ويأتي هذا التحليل في وقت تواصل فيه إدارة ترامب تبنّي سياسة "أمريكا أولاً"، مع إعادة تمركز القوات الأمريكية بعيدًا عن مناطق التوتر منخفضة الأولوية، من وجهة النظر الأمريكية، مثل دول الساحل الأفريقي.
وشمل ذلك تقليص العمليات التي كانت تقودها القيادة الأمريكية لأفريقيا (أفريكوم)، وسحب وحدات الدعم والاستخبارات من عدد من القواعد الحيوية، لا سيما في النيجر وتشاد.
في هذا السياق، قالت لورانس دي روتش، الباحثة المتخصصة في شؤون السياسة الخارجية الفرنسية بمعهد "مونتين" بباريس، لـ"إرم نيوز"، إن انسحاب واشنطن من أفريقيا ليس مجرد تحوّل تكتيكي، بل هو إعلان نهاية مرحلة كانت فيها الولايات المتحدة تؤدي دور الضامن الأمني والاقتصادي لحلفائها.
وأكدت أن على فرنسا الآن أن تختار: إما أن تملأ هذا الفراغ، وإما أن تتركه لقوى طموحة مثل الصين، التي عادت بقوة مستفيدة من التردد الغربي.
وأضافت: "فرنسا تعاني أصلًا من تآكل حضورها التاريخي في مستعمراتها السابقة، بسبب مشاعر العداء المتصاعدة ضد سياساتها في الساحل، وتكرار الانقلابات العسكرية، وهي بحاجة إلى إعادة صياغة استراتيجيتها الأفريقية من منطلق الشراكة لا الوصاية، خصوصًا مع صعود قوى مثل روسيا والصين التي تقدم بدائل مختلفة تمامًا".
ومن جانبه، اعتبر جان كريستوف بيشون، الباحث في "مركز الدراسات الجيوسياسية المتقدمة" أن الانسحاب الأمريكي يمثل فرصة مؤقتة لفرنسا، لكنه مشروط بقدرتها على تجاوز إرثها الاستعماري، وتعقيد علاقاتها مع بعض الأنظمة العسكرية الجديدة في غرب أفريقيا، مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر، التي انقلبت بوضوح على النفوذ الفرنسي وقرّبت نفسها من موسكو وبكين.
وأضاف لـ"إرم نيوز": "إن لم تتمكن باريس من استعادة المبادرة عبر أدوات جديدة تعتمد على الاقتصاد الأخضر، والتعليم، والتحول الرقمي، فستفقد نهائيًا موقعها لمصلحة بكين، التي تتحرك الآن بثقة من خلال مشاريع الحزام والطريق، وقواعد تجارية وتمويلية تمتد من جيبوتي إلى غرب أفريقيا".
وفي ظل تراجع الدور الأمريكي وتصاعد الخطاب السيادي في أفريقيا، خاصة في دول الساحل، بدا أن الصين تملأ الفجوة بسرعة، من خلال استثمارات ضخمة في البنى التحتية، وتمويلات بشروط ميسرة، وشراكات عسكرية غير مباشرة في بعض المناطق. ويثير هذا الأمر قلقًا أوروبيًا متزايدًا، لا سيما في باريس وبروكسل.
وفي هذا السياق، قال الخبير البوركيني في العلاقات الدولية الدكتور عبدو تراوري، الباحث في مركز الدراسات الأفريقية بواغادوغو، لـ"إرم نيوز" إن "الصين عادت إلى أفريقيا بحسابات استراتيجية دقيقة".
وأوضح أن الصين "لا تفرض شروطًا سياسية، وتمنح الدول الأفريقية هامشًا أكبر في رسم سياساتها، مقارنة بالنموذج الفرنسي أو الأمريكي الذي يرتبط بالمساعدات المشروطة".
وأكد أن "فرنسا اليوم ليست في موقع يسمح لها بالتصعيد ضد الصين، بل عليها أن تعيد التفكير في صيغة تحالف أوروبي موحد، خاصة أن الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى استراتيجية موحدة في أفريقيا، ما يجعل المنافسة مع الصين غير متكافئة".
ومن ناحيته، أشار الباحث المالي الدكتور باسيكو ديالو، مدير وحدة الحوكمة والسيادة في مركز الدراسات الاستراتيجية في باماكو، إلى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "يحاول منذ عام 2017 تبني سياسة أفريقية مختلفة، لكنها لا تزال محصورة في النوايا، بينما الصينيون على الأرض، يبنون الطرق والمواني ومحطات الطاقة، ويقدمون قروضًا بأقل تكلفة".
وأضاف لـ"إرم نيوز": "فرنسا لن تستطيع وحدها مواجهة التمدد الصيني، وإذا لم تتحرك من منطق الشراكة الندّية، فسيتجاوزها الزمن. أما إذا حاولت فرض نفسها بالقوة أو عبر الخطابات الإمبريالية القديمة، فستفشل كما فشلت في النيجر ومالي".
وهناك 3 سيناريوهات محتملة للنفوذين الصيني والأوروبي في أفريقيا، أولهما التحول نحو شراكة أوروبية موحدة في القارة، عبر تنسيق فرنسي ألماني إيطالي، وربما خلق مشاريع تنموية كبرى لمنافسة الصين بشكل غير تصادمي.
أما السيناريو الثاني فهو مواجهة باردة بين باريس وبكين، تبدأ من مناطق النفوذ التقليدي الفرنسي، لا سيما في غرب أفريقيا، مع تصاعد حملات إعلامية وتنافس دبلوماسي غير مباشر على النفوذ.
ويشير السيناريو الثالث إلى تراجع فرنسي تدريجي لمصلحة صعود مزدوج لكل من الصين وروسيا، مع تركز باريس فقط في المناطق الفرنكوفونية المستقرة سياسيًا مثل السنغال وساحل العاج.