يتوافق الخبراء الاقتصاديون على أنّ الهدنة التجارية المعلنة بين واشنطن وبكين، ستمتدُّ إلى ما بعد الموعد المقرر في الـ12 من نوفمبر/ تشرين الثاني، وذلك بناء على التفاهمات رفيعة المستوى ما بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ، وهي تفاهمات يبدو أنّها نجحت في تجميد مستوى الرسوم الجمركية إلى مستوى مقبول بين الطّرفين.
وتبادل الطرفان في بداية هذا العام فرض رسوم جمركية قاسية على المنتوجات والسلع البينيّة تجاوزت نسبة 100% الأمر الذي وصفه بعض الخبراء بالحرب التجارية بين القوتين الاقتصاديتين العالميتين، إذ إنّ جزءًا كبيرًا من التجارة العالمية تعطّل وعانت البورصات بشدّة خلال تلك الفترة الحرجة.
واتفق البلدان في أيار/ مايو على خفض الرسوم الجمركية مؤقتًا، حيث تم خفض الرسوم الأمريكية الجديدة على الصين إلى 30 في المئة، وخُفضت الرسوم الصينية على أمريكا إلى 10 في المئة.
ورغم تأكيد الطرفين، أنّ هذه النسب ستبقى قائمة مؤقتًا أي إلى تاريخ الـ12 من نوفمبر أو إلى حين التوصل إلى اتفاق ثنائي قبل هذا الموعد، فإنّ الخبراء الاقتصاديين يؤكدون أنّ البلدين سيدخلان في مسار من التمديد المتتالي والمتوالي لهذا الإجراء، وسيتحول المؤقت إلى دائم، حتى إشعار آخر.
في هذا السياق التفاؤلي بإمكانية تمديد "الهدنة التجارية" إلى إشعار جديد، يتحدث المراقبون الاقتصاديون عن مؤشرين اثنين ترجح بهما كفة التهدئة عن التصعيد.
ووفق المراقبين ذاتهم، فإنّ الاتّصال الهاتفي الذي دار بين ترامب وجين بينغ يوم الجمعة الـ19 من سبتمبر الجاري، تمكن من تقريب نسبي في وجهات النظر الصينية والأمريكية في قضايا جدّ مهمّة وأساسيّة على رأسها قضية تطبيق "تيك توك" المملوك من شركة ByteDance الصينية، إذ اتفق الرئيسان على مبدأ بيع أصول التطبيق في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ما سيسمح لها بمواصلة نشاطها في أمريكا.
ويؤكد الخبراء أنّ الرئيس ترامب يعتبر مسألة "تيك توك"، مسألة جدّ مركزية، ومكمن هذا الاعتبار لا يعود فقط لاهتمامه الشديد بشبكات التواصل الاجتماعي وبالتطبيقات الرقمية وهو ما تجسّد خلال اجتماعه الأخير برؤساء ومديري هذه الشبكات والتطبيقات في البيت الأبيض، وإنما أيضًا لأنّه يرى في "تيك تو"ك حليفًا انتخابيًّا وسياسيًّا مركزيًّا دعم إعادة انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية.
ويستدلّ المتابعون والمهتمون في هذا السياق بتصريح ترامب الذي جاء فيه: "أنا أحب تطبيق تيك توك، فقد ساعد على انتخابي.. تيك توك له قيمة هائلة. الولايات المتحدة لديها هذه القيمة في يدها لأننا نحن من يجب أن نوافق عليها".
أمّا المؤشر الثاني، فهو التفاهم الثنائي لعقد قمة اقتصادية ثنائيّة جديدة نهاية أكتوبر بداية نوفمبر القادم، خلال قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك) في كوريا الجنوبية.
ولئن يرجح الخبراء أنّ القمة الثنائية المنتظرة في كوريا الجنوبية، ستشهد توقيع اتفاقية تجارية ضخمة بين البلدين، تنظم الرسوم الجمركية بينهما بشكل نهائيّ، وتنقل أصول شركة "تيك توك" في الولايات المتحدة الأمريكية إلى شركات أمريكية، فإنّ التسليم بهذا التوقع يبقى في حاجة لتأكيد رسمي من البلدين.
في هذه الأثناء، خفتت بشكل لافت أصوات التصعيد والوعيد المتبادلة، التي عرفها العالم بداية العام، في مقابل ارتفاع صوت الواقعية والتعقل في التعامل لدى الطرفين، سعيًا إلى الوصول إلى تفاهمات اقتصادية تجارية مبنية على ثنائية "رابح رابح".
ووفق المراقبين، فإنّ الاتهام الأمريكي الصريح الذي وجهه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للاجتماع الثلاثي الأخير الذي جمع الصين وروسيا والهند، واعتباره أنّ هذه القمة موجهة ضدّ المصالح الأمريكية، كان بمثابة "السحابة العابرة" التي مرت بمجرد استئناف الاتصالات رفيعة المستوى بين بكين وواشنطن.
في هذا المفصل الماليّ، يؤكّد الخبراء الاقتصاديون الأمريكيون أنّ خيار الهدنة التجارية مع بكين، كان خيارًا إستراتيجيًّا عميقًا بعد استقراء إدارة ترامب للتداعيات الخطيرة الممكنة على الاقتصاد الأمريكي التي يكتنفها قرار الترفيع من الرسوم الجمركية.
وقد منحت السيطرةُ الصينية شبه الكلية على المعادن النادرة، وأهمية الأخيرة في صناعة السيارات الكهربائية وفي صناعة الهواتف الجوالة والحواسيب، ورقة تفاوضية جدّ مهمة لبكين في مناقشاتها مع الإدارة الأمريكية.
وبحسب هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، فإنّ الصين تسيطر على 70% من إنتاج المعادن النادرة في 2024، ولديها نسبة كبرى من احتياطيات العالم من هذه المعادن.
وتسيطر الصين على مناجم ومصادر المعادن النادرة، سواء تلك الموجودة في أراضيها أو في إفريقيا أو في المناطق القريبة منها في شرق آسيا.
ومكنتها الاتفاقيات الإستراتيجية طويلة الأمد التي وقعتها مع بضع دول إفريقية من سيطرة مكنتها من الاحتكار شبه الكامل لمعادن الذهب واليورانيوم والليثيوم والنحاس والزينك، وغيرها، وهو احتكار امتدّ من الاستخراج والإنتاج، إلى سلاسل التوريد البري والجوي نحو الصين، إلى التصنيع، ثم التصدير.
وباتت الصين تهيمن على كافة منظومة "عناصر الأرض النادرة" وهي مجموعة من 17 عنصرًا كيميائيًّا، من بينها الإيتريوم، والسكانديوم، واللانثانوم، والنيوديميوم، والديسبروسيوم، وغيرها. وتتميز هذه العناصر بخصائص فيزيائية وكيميائية تجعلها ضرورية في صناعات التكنولوجيا المتقدمة، مثل: الهواتف الذكية، والسيارات الكهربائية، وتوربينات الرياح، والشاشات، والبطاريات، والصناعات العسكرية، مثل: الطائرات المقاتلة (F-35)، والرقائق الإلكترونية.
وشدد الخبراء على أنّ الصين أحسنت استخدام ورقة المعادن النادرة خلال مفاوضاتها مع واشنطن، خاصة أنّ هذه المعادن باتت مطلوبة على نطاق واسع في صناعة الأجهزة والتقنيات الخاصة بقطاع الاتصالات والسيارات الكهربائية وهي مجالات تعتمد عليها الشركات التكنولوجية المتقدمة في الولايات المتحدة.
ويبدو أنّ الشهية الصينية في الهيمنة على المعادن الثمينة والنادرة لا تقف عند حدّ، ذلك أنّ اتفاقيات جديدة أبرمتها بكين مع جارتها أوزبكستان لاستكشاف الذهب.
وحسب صحيفة "تشاينا مورنينغ بوست" فإنّ أوزبكستان تعد محورًا رئيسيًا في الإستراتيجية الصينية، فقد اقترحت جمعية رواد الأعمال الصينيين في أوزبكستان إنشاء صندوق استثماري ب500 مليون دولار أمريكي لتطوير إمكانات البلاد في مجال المعادن الخضراء، كما اتفقت في بداية أغسطس مجموعة الذهب الوطنية الصينية الحكومية مع أوزبكستان لتوسيع التعاون في الاستكشاف الجيولوجي في المناطق الواعدة بالمعادن الثمينة والحيوية.
والحقيقة أنّه لا يمكن اختزال "تمديد الهدنة" في السيطرة الصينية على المعادن الثمينة والنادرة على أهمية هذا المعطى، فوفق الخبراء الاقتصاديين والإستراتيجيين تقف أسباب أخرى لا بدَّ من أخذها بعين الاعتبار.
أوّلها صفقة الطائرات المعروفة بـ"صفقة بوينغ" فبحسب وكالة "بلومبرغ" تقترب شركة بوينغ من إبرام صفقة لبيع 500 طائرة إلى الصين، وهي صفقة جدّ مهمة من شأنها إنهاء جمود المبيعات المستمر منذ 2017. ولا يزال الطرفان يناقشان تفاصيل الصفقة التي توصف بالمعقدة بما في ذلك أحجام الطائرات وجداول التسليم وأنواع الطائرات، وهي الصفقة الضخمة التي يُجرى التحضير لها منذ سنوات، ولا تريد لا بكين ولا واشنطن التخلي عنها. ويؤكد الخبراء أن مثل هذه الصفقات الكبيرة تدفع المسؤولين إلى التخفيف من حدّة التوترات ونزع فتيل الأزمات.
ثانيها الملف التايواني، حيث أرسل ترامب رسالة جدّ مهمة لبكين من خلال رفضه تسليم مساعدات عسكرية بأكثر من 400 مليون دولار لتايوان، وهي مبادرة جدّ مهمة أسهمت في تخفيف التوترات بين الطرفين، خاصة أن بكين تعتبر تايوان خطًّا أحمر.
ثالثها، القدرة الصينية الهائلة في توريد بعض السلع والمنتوجات الأمريكية حيث يمثل السوق الصيني مجالًا جذابًا للكثير من المنتوجات الأمريكية، على غرار "حبوب الصويا"، والتي أعرب ترامب في منشورات سابقة عن رغبته في مضاعفة الصين لطلباتها من حبوب الصويا الأمريكية 4 أضعاف، كطريقة لموازنة التجارة مع أمريكا.
ورغم هذا المسار الإيجابي الذي تسير فيه العلاقات الأمريكية الصينية، فإنّ بعض التعقيدات لا تزال قائمة؛ فقد أطلقت الصين تحقيقًا لمكافحة الإغراق يستهدف شركات أشباه الموصلات الأمريكية، إلى جانب فتح تحقيق مع شركة "إنفيديا" بتهم تتعلق بممارسات احتكارية. كما تواصل بكين الضغط من أجل الحصول على وصول أوسع إلى التكنولوجيا الأمريكية.